عادل يازجي

في عامها الثاني (2012)، دخلت الأزمة السورية أروقة الأمم المتحدة وسط اهتمام عالمي كبير، احتضنته المنظمة بالقرارات والمنتديات والمؤتمرات على أرفع المستويات الدولية، وأرسلت مبعوثيها إلى أطراف الأزمة ممثلين لها، أي (للمجتمع الدولي)، الذي أوجدها، وأوكل إليها تسوية الخصومات والحد من الصراعات بين الدول، وتحقيق الوئام والاحترام المتبادل والقيم المشتركة. 

ولهذه الغاية اختارت مندوبيها من ذوي التاريخ الحافل في فن التفاوض وفض المنازعات، كوفي عنان، ثم الأخضر الإبراهيمي، وحالياً ستيفان دي ميستورا، وكلفتهم في قراراتها باستبدال النظام المغلق بآخر منفتح (وفق قراءة المعارضة لتلك القرارات)، لكنها عدَلت في مهمة مبعوثيها ليصبحوا وسطاء بين طرفين متخاصمين متصارعين (وليس بين أطراف عديدة) وتحولت مهمة الوسيط تدريجاً من إلغاء طرف لصالح طرف آخر، إلى إصلاح ذات البين بينهما، وإنهاء الصراع، وهذا ينسجم مع طبيعة الأمم المتحدة وفلسفة وجودها، التي لا تنتصر لطرف ضد آخر عندما يكون الانتصار لسلاح ضد سلاح، أو لمذهب ضد مذهب، وليس مستغرباً منها أن ترضخ لضغط روسيا من أجل الحفاظ على الوضع الراهن بعد رتوشه وإصلاحه، وهذا الهدف يحتاج إلى دعم سياسي ودبلوماسي من القطبية الثنائية والقوى الفاعلة في المجتمع الدولي، الذي لا يخفى عليه أن تأثير الأمم المتحدة في الأحداث والأزمات الدولية لا يبعث على التفاؤل ولا يوحي بوميض برق في هذه السحب الداكنة التي تعكر صفو عالمنا بعلاقات الشك والريبة والتآمر والاحتيال، وانعدام الثقة حتى بين الأشقاء دولاً وتنظيمات وتجمعات سياسية.

هذه حال المجتمع الدولي، ولن تكون إرادته التي بعث بها لتوحيد أطياف المجتمع السوري إلا نسخة غير معدلة عنه، والنتائج واضحة: المجتمع السوري يتشظّى ويتجزأ تحت أنظارها، وكأن هذا المآل يمثل رغبة المجتمع الدولي إمّا بإرادته، أو بغياب فاعليته، أو كليهما معاً، باختصار هو غير قادر على التوسط الفعّال للحد منها، فالواقعية السياسية في واد والأمم المتحدة في واد آخر، لأن لعبة الأمم خرجت خيوط تحريكها من ايدي السياسيين، إلى أيدي الأمنيين وشبكاتهم الوطنية والدولية، واصبح القرار السياسي مترجماً للقرار الأمني. وطبيعي اذاً أن تطبخ إرادة المجتمع الدولي في مطابخ الشبكات الأمنية وليس في مطابخ السياسيين! 

ولغة القرار الأمني تقوم أساساً على الشك والريبة وعدم الثقة والاحتيال، استناداً إلى قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) وها هي الأزمة السورية تنيخ ركابها في تلك المعطيات الأممية فتصل تلقائياً إلى زعزعة أسس الوجود السوري ثقافياً وجغرافياً وديموغرافياً، داخل حدود الوطن وخارجه.

ليس هذا المآل من صنع سياسيين حكماء، ولا ندري من أي كوكب يتنّزل حكماء الأمن المكتملو الحنكة وبُعد النظر كي يتمكنوا من اللعب بالقرار السياسي، وإدارة العلاقات السياسية الدولية، والسياسات الوطنية، وحبك المؤامرات لتحقيق الأمن.

الأزمة السورية لا أمل لها بالمجتمع الدولي ما دامت في ضيافة العلاقات المعقدة بين الشبكات الأمنية المحلية والدولية، فكل شبكة تفبرك عدوها بيدها، وتكافئه ثم تحاربه، كما هي الحال مع تنظيمي «داعش» و»النصرة»، المنخرطَيْن في هذه الشبكات، لا أحد يؤيد وجودهما من منطلق آيديولوجي أو ديموغرافي أو مذهبي، سوى أردوغان وحاشيته «الإخونجية»، ومع ذلك استثمرت فيهما معظم الفصائل المقاتلة والأطراف الداعمة، وما من طرف كان صادقاً في حربه عليهما بدءاً من التحالف الدولي، مروراً بروسيا وحلفها الثلاثي، إلى النظام وحلفائه وداعميه، والجميع تحت عباءة الشبكات الأمنية والعسكرية.

مشكلة كردستان بشقيها العراقي والسوري، لا تنذر بما يسر الكرد الراغبين بالانفصال عن العراق، لكنها تسر (مرحلياً) الراغبين بالفيديرالية السورية، لأن الدعم السياسي والعسكري والأمني تحوّل من كردستان العراق إلى كردستان سورية مع قوات سورية الديموقراطية، التي أثبتت أنها أكثر فائدة عسكرياً وسياسياً وتكتيكياً لجميع الأطراف باستثناء تركيا.

لكن المماحكة الأردوغانية في الموضوع الكردي، وفي طريقة التعامل مع مضاعفاته الإقليمية قد تصل بواشنطن إلى حرق الورقة الكردية ثمناً لعودة تركيا إلى أحضان ترامب المتأزم داخلياً، ولا شك في أن أنقرة تدفع بهذا الاتجاه من وراء الستار، وليس صعباً على شبكاتها الأمنية التقاط الإيحاءات الأميركية بإبعاد أردوغان عن الضفة الروسية في موجة التجاذبات القائمة على خطوط آستانة وسوتشي المرتقبة.

أما الحوار الوطني السوري في سوتشي فلن يغيب عن قمة بوتين- ترامب في فييتنام، كأرضية يبنى عليها الحل السياسي، ولا يُستبعد تأجيله وربما تغيير مكان انعقاده، لكنه إن عُقِد فبمنطق الواقعية السياسية، وبمن يلبي الدعوة، التي لم يُستثنَ منها أي طرف موال أو معارض، لا سيما أن الثنائية القطبية (قبل انعقاد قمتها) تلوّح بالتغيير الذي يستثني منصب الرئيس، ويجيّره إلى مسودة التعديل الدستوري، بضغوط مكثفة من موسكو، وتصريحات أميركية قابلة للتأويل وفق مقتضيات الطوارئ السياسية، قد تحسمها قمة القطبين إذا باركها أصدقاؤهما العرب! لأن الخوف من تأويل موقف واشنطن يربك الموقف الروسي، وعدم تأويله يربك الأطراف الداعمة للمعارضة، ما لم تحسمه قمة الرئيسين، وقد تفاجئنا موسكو كعادتها باقتراحات جديدة تخرجها من دوامة شطحات حلفائها النظام وإيران وتركيا، تكون على حساب موعد الحوار الوطني المطروح، وربما مكانه، وسلله الحوارية أو التفاوضية أو التصالحية والبوادر في الأفق السياسي مشحونة بالغيوم الماطرة.

إذا عقد اجتماع سوتشي فبالواقعية السياسية- الأمنية قد ينطلق قطار الحل، وإلاّ فالعَوْدُ أحمدُ إلى البلاغة الخطابية الأممية في جنيف، التي بادر دي ميستورا كعادته لتحديد موعدها، وحمايتها من الضربة الروسية القاضية.