وحيد عبد المجيد 

مرت الذكرى السنوية لوعد بلفور في 2 نوفمبر الجاري بهدوء لافت في العالم العربي، بخلاف توقعات ذهبت إلى أن إعلان الحكومة البريطانية الاحتفال بهذه المناسبة يُمثِّل استفزازاً قد يدفع إلى رد فعل قوي. وباستثناء مسيرات صغيرة في الضفة وقطاع غزة، وبضعة بيانات صدرت في بعض البلدان العربية، لم يكن هناك ما يدل على غضب ظاهر. فهل يعود ذلك إلى استيعاب دروس تاريخية من بينها أن مسؤولية العرب عن ضياع فلسطين أكبر من الأثر الفعلي الذي ترتب على وعد بلفور، أم إلى عوامل أخرى تتعلق بتراجع أهمية القضية التي ظلت توصف طويلاً بالمركزية، في ظل طوفان الأزمات التي تضرب المنطقة؟

لا توجد وسيلة منهجية لمعرفة هل بدأ بالفعل استيعاب دروس التاريخ في قضية فلسطين وإلى أي مدى؟ نوع الخطاب المتضمن في البيانات الصادرة عن منظمات وهيئات عربية لا يُدعِّم الاعتقاد باستيعاب هذه الدروس، لكن قلة عدد هذه البيانات قد يوحي بغير ذلك، ويدل على أن الدروس التاريخية صارت ماثلة لدى بعض الأوساط العربية دون بعضها الآخر.

وعلى أية حال ليتنا نهتم، في هذه المناسبة، بمراجعة تاريخنا المكتوب عن الفترة بين إصدار الوعد وإعلان قيام إسرائيل عام 1948. فقد حفلت تلك العقود الثلاثة بفرص متفاوتة كان يمكن استثمارها لتجاوز وعد بلفور فعلياً، وفتح الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية، وخاصة في الفترة بين إصدار تقرير اللجنة الملكية لفلسطين المعروفة باسم «لجنة بيل» عام 1937، وإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها المشهور رقم 181 في نوفمبر 1947. لم يرق تقرير «لجنة بيل»، التي حققت في انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1936، إلى مستوى الطموحات العربية. لكنه كان أفضل من أقصى ما يمكن أن تبلغه هذه الطموحات الآن. فقد اقترحت اللجنة في تقريرها الصادر في يوليو 1937 إنشاء ثلاثة أقاليم أحدها فلسطيني، والثاني يهودي، والثالث يتحد مع الأردن.

غير أن الفرصة الأفضل كانت في مؤتمر لندن الذي دعت حكومة تشمبرلين البريطانية لعقده في لندن بداية 1939، لبحث مقترحات جديدة بشأن فلسطين، والوثيقة التي استندت على تلك المقترحات وعُرفت باسم «الورقة البيضاء» الصادرة في مايو من العام نفسه، فقد تضمنت هذه الورقة، في ثناياها، ما كان يرقى إلى مرتبة وعد للفلسطينيين أكثر أهمية من وعد بلفور. لم ترد كلمة وعد في تلك الورقة، لكن مضمونها كان حاضراً، مثلما لم تتضمن رسالة اللورد آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد في عام 1917 تلك الكلمة صراحة.

غير أن مضمون الورقة البيضاء حمل ما كان من شأنه تجاوز وعد بلفور فعلياً، وهو تعهد باستقلال فلسطين، أي إنهاء الانتداب عليها بعد عشر سنوات، وعقد معاهدة مع الدولة الفلسطينية على غرار معاهدة 1936 مع مصر، إلى جانب الحد من الهجرة اليهودية.

كانت «الورقة البيضاء» هي الفرصة الأفضل على الإطلاق للفلسطينيين. لكن قيادتهم آنذاك، والدول العربية التي حضرت مؤتمر لندن، أضاعتها، فقد رفضت المقترحات البريطانية في المؤتمر، ثم اعترضت على «الورقة البيضاء» التي كان يمكنها أن تُغيِّر مسار التاريخ.

لذلك ربما يجوز القول إن رفض «وعد تشمبرلين» في «الورقة البيضاء» هو الذي رسَّخ محتوى «وعد بلفور»، وأن موقف القيادة الفلسطينية التي كان على رأسها الزعيم الراحل أمين الحسيني ساهم في تيسير مهمة الحركة الصهيونية لتحقيق هدفها. فقد افتقدت تلك القيادة الرؤية، ولم تدرك حقائق الواقع والمعطيات الدولية حينئذ، وانحازت إلى الألمان في الحرب العالمية الثانية، بل توجه الحسيني إلى العراق عام 1941 والتحق بحركة رشيد عالي الكيلاني الموالية للنازية، الأمر الذي وضع الشعب الفلسطيني وقضيته في صف المهزومين في تلك الحرب.

وكان القرار 181، المعروف بقرار التقسيم، هو الفرصة الأخيرة في تلك المرحلة التي سبقت إعلان قيام إسرائيل، فقد نص على إقامة دولة فلسطينية، وثانية يهودية، ووضع القدس وبيت لحم تحت وصاية دولية. وكانت مساحة الدولة الفلسطينية في ذلك القرار أكثر من ضعف المساحة التي نص اتفاق أوسلو عام 1993 على إقامة سلطة فلسطينية فيها.

وليست هذه إلا بعض دروس تاريخ صار لزاماً علينا أن نستوعبه إذا أردنا إنقاذ ما يتيسر إنقاذه، وإقامة دولة فلسطينية قبل أن يبتلع الاستيطان ما بقي من أراضٍ في الضفة الغربية.