صالح الديواني

جعلتنا الصحوة أبعد عن الإنسان وأقرب إلى الروبوتات الآلية المطيعة، وفق برمجة أرادها اللاعبون الكبار خلف صورتها الظاهرية، وأي شخص خارج إطارها هو شخص أقرب إلى الفاسد غير السوي، وهو بحاجة ماسة إلى الهداية. 
علمتنا الصحوة أن الأخلاق لا ترتفع إلا في نموذجها وتنخفض خارجه، علمتنا أن نُخرج الناس من الملة بلمح البصر، طالما هم بعيدون عن فكرها وقطيعها، علمتنا أن ننتقص من خصومها مهما بلغ علمهم، وأن نتجهّم في وجوه الآخرين، ونشكك في ضمائرهم ونواياهم وتصرفاتهم، علمتنا أن نصم المخالفين بالتغريبيين، الليبراليين، العلمانيين!.
لم تقبل الصحوة بأقل من التبعية الكاملة لأفكارها، لذلك قدمت كل ما تستطيع لاسترضاء كل شيء وكل أحد، وجاءت بمفاهيم مشوهة لتحقيق ذلك الهدف، واستمات أفرادها في تعميمها كمسلمات في أحايين كثيرة.
ومما أتذكره، كيف أن كثيرين ممن استحوذت عليهم الصحوة بفكرها، ونشرتهم في كل مكان: «المدرسة - المسجد - المخيمات الصيفية - الشارع - المناسبات الاجتماعية»، تسابقوا في ابتداع بعض حركات التكبير والصلاة، وإطلاق الأحكام القطعية في المسائل الخلافية، كموضع اليدين على الصدر أو البطن، ومستوى رفع اليدين للتكبير، وتوزيع مثل تلك الأحكام ليس على علم شرعي كامل، بقدر استنادها إلى اجتهادات من بعض أولئك الصحويين الصغار، اختلط معها الصواب بالخطأ، لأنها خضعت لمزاجية المتحدث الصحوي بها، وإطلاق العنان له ليقول بكيفية الأشياء طالما هو تحت سيطرة فكر الصحوة، ليشغلوا الناس بكيفيتها وجوازها من عدة طرق، بينما لم يرد في منهجهم أي تقدير للعقل وقدراته وضرورة إعماله في المطروح، فالعقل آخر ما يمكن الإشارة إليه في المنهج الصحوي.
هكذا بكل بساطة تمكنت الصحوة من تجنيد البسطاء فكرا وعلما، ونشرهم، لأن الهدف لم يكن توضيح تعاليم ومفاهيم الدين وبساطته، بقدر الهدف البراجماتي المتمثل في الاستحواذ على الشارع.
جاءت الصحوة بنماذج أقرب إلى الدراويش السطحيين علما وخلقا منهم إلى المتفقهين الحقيقيين، لهم القدرة على التصدي للإفتاء حتى لو لم يسألهم أحد، ليصنعوا مجتمعا يعرف أفراده كثيرا من المعلومات المغلوطة والمشوهة، وكرست عبارات منتقاة استخدمت في غير مواضعها، لا يدعمها منطق التفكير والحوار، لحشد أكثر عدد ممكن من المناصرين والمتعاطفين، حتى وإن لم يكن متشددا منخرطا في قطيعهم، يناقشك ويحاججك باسم الدين وهو أبعد منك إلى المسجد، يستمع إلى الغناء وهو مؤمن بتحريمه، ينكرون تحديد مدة عقد الزواج ويسافرون إلى ما وراء البحار ليمارسوه، هكذا أوجدت جمهور المتناقضين والمتناقضات في المجتمع. 
وهو ما نعاني من آثاره حتى اليوم، فترى المعارضين لتصرفات الشارع ليس من باب الخطأ والصواب، بل من باب القول بالحلال والحرام، والأخيرة جاءت نتيجة تلقين أكثر منه إيمانا وتمكنا وفهما لمقاصد الدين ومضامينه، بعكس الأولى التي يترتب عليها المنطق والوعي والإدراك والمسؤولية، حتى تصدى للرد كل من هبّ ودبّ، ونصّب نفسه غيورا على الدين من دون المسلمين.
الغريب، أن يظن بعض الذين يمارسون دور المثالية، أن أمر الصحوة انتهى فجأة هكذا، لكنني أجزم -بحكم معايشتي فترة مهمة من مشروعها- أن موتها نهائيا إلى غير رجعة يحتاج إلى مرور وقت أطول مما يعتقد أولئك البعض -من وجهة نظري- مع تقديري لكل ما حدث، إذ يكفي أن تفتح موضوعا متعلقا بالحفلات الغنائية، أو حضور العائلات لها أو للملاعب الرياضية مثلا، لترى عدد الذين سيهُبّون لمعارضتك وشتمك بأقذع الكلمات في قاموس الصحوة، ونبذك بأشنع الأوصاف، حتى وهم يظهرون في أشكال المنفتحين على العالم والفكر والثقافة، ويرفعون شعارات التعايش والتسامح، ويلبسون سراويل الجينز والبرمودا، ويقصون شعورهم الكابورية والرونالدية، في مشهد متناقض عنيف تعيشه تلك الشخصيات المسكينة!.
يحدث هذا لأن البرمجة الصحوية اشتغلت كثيرا على الأدمغة، وسوّقت كل ما يمكنه أن يضع بيوت المجتمعات العربية في متناول قبضتها، متى شاء مسيروها تحريك أفرادها المغلوبين على أمرهم دون أن يشعروا بذلك، وقد حدث ونجحوا مع أعداد غفيرة من الشوارع العربية، أنتجت انتحاريين ومهووسين بالدماء والذبح وقتل الأبرياء.
إن ما فعلته الصحوة في المجتمعات العربية جريمة لا يمكن نسيانها بين عشية وضحاها، أو أن ذلك قابل للقفز عليه ممن هبّ ودبّ للتنظير للماضي أو الحاضر أو المستقبل. هناك وقت فاصل لا بد أن يمر به الجميع، وإن كان قاسيا، لكنه مهم للتخلص من تلك المفاهيم التي سرقت جزءا كبيرا من أعمارنا في زمن مضى.