أمل عبد العزيز الهزاني

 الدولة السعودية بكياناتها الثلاثة؛ الأولى والثانية والثالثة، لم تستعمر من أي دولة أجنبية، ويومها الوطني الذي تحتفل به السعودية كل عام ليس احتفالاً بذكرى استقلال أو تحرر من المستعمر، بل بتوحيد أرجائها تحت حكم الملك عبد العزيز رحمه الله. لم يكن الأجنبي مصدر تهديد للدولة السعودية من قبل إلا حينما غزا الألباني إبراهيم باشا ابن والي مصر بلدة الدرعية بأمر من السلطان العثماني في الآستانة، مقر حكم الإمام عبد الله بن سعود، خلال الدولة السعودية الأولى، وحاصرها ستة أشهر، وهدم سورها وقتل وأسر أهلها ثم عاد إلى مصر، ذلك في عام 1819.


الدولة السعودية الثالثة التي أسسها الملك عبد العزيز قبل أكثر من ثمانين عاماً، عبرت طريقاً وعراً من التحديات السياسية والاقتصادية، أهمها الحرب العالمية الثانية، واكتشاف النفط، لكن هذه الظروف التي صاحبت الدولة الوليدة لم تجعلها لقمة سائغة، ولم يخضع بيت الحكم السعودي لأي قوى خارجية لأي سبب كان، وباختصار، توافق الملك عبد العزيز مع الإنجليز في مصالح مشتركة من الناحية السياسية، واختار الأميركيين ليكونوا رعاة الثروة النفطية القادمة حتى تقف الدولة وتتمكن من بناء هيكلها.


الخبرة التراكمية في الحكم في السعودية خلال أكثر من قرنين من الزمن، تتمثل القدرة على استبصار المخاطر، وسبر أغوار الخصوم، مكّنت من تجنب كثير من المزالق التي وقعت فيها بعض الدول العربية، وبقيت المملكة خلال هذه العقود الثمانية تتجنب المواجهات ما لم تفرض عليها، كما حصل في حرب الخليج الثانية. الظروف اليوم تبدلت، الدولة السعودية الثالثة ذات بنيان اقتصادي صلب، وعلاقات سياسية رصينة مع قوى عالمية، وواجهة للمنطقة العربية كونها الأكثر استقراراً والأقوى في بنيتها العسكرية. تقابل هذه القوة زيادة مضطردة لحجم التهديدات، أبرزها على الإطلاق التهديد الأجنبي المتمثل في الفرس الإيرانيين.
المتأمل في هذه المرحلة يلحظ أن بوصلة السياسة السعودية الخارجية اتجهت صوب الانكشاف، ورسم خطوط عريضة تجاه ما يهدد أمنها. وبشجاعة، بدأت تعري الدول والكيانات التي تمثل تهديداً لأمنها القومي وأمن المنطقة، فاستفتحت بدولة قطر، وضعتها تحت الأضواء الدولية للمراقبة والمحاسبة عن كل خطاياها الماضية في دعم الإرهاب والفساد الرياضي وغسل الأموال. سياسة جديدة مغايرة لدبلوماسية العتب والنصح بالسر. طفح الكيل ولا يوجد مكيال أوسع صدراً. ولأن قطر موضوع صغير جداً، بحسب قول ولي العهد السعودي، بدأت المملكة بحملة تصعيد كبيرة وتحشيد دولي ضد «حزب الله» اللبناني، القوة الحقيقية لإيران. الدبلوماسية السعودية كانت دائماً ما تقدم المصلحة اللبنانية والاستقرار اللبناني على المواجهة مع «حزب الله»، ونتذكر تصريحها الرسمي بعد اختطاف «حزب الله» جنديين إسرائيليين في صيف عام 2006 ونشوب حرب دمرت بيروت، بأن هذه الحرب مغامرة غير محسوبة.


في وقت ما، تكون الدبلوماسية والموعظة الحسنة ألمعية، وفي وقت آخر تكون انهزامية، هذا ما يفسر السلوك السعودي الحالي تجاه التصعيد على «حزب الله» اللبناني - الإيراني من جهتها، وليس ترك حل المعضلة متعلقاً بالقرار الدولي المنفرد أو بالعقوبات الأميركية فقط. رفع الصوت اعتراضاً تجاه ممارسات الحزب في اليمن والبحرين وسوريا ولبنان والعراق والكويت بات ضرورة ملحة في ظل حرية الحركة التي يتمتع بها الحزب في المنقطة حاملاً لواء ولاية الفقيه التي صرح بولائه لها. الصاروخ الباليستي الذي استهدف العاصمة الرياض، زودت به إيران جماعة الحوثي اليمنية التي تولى «حزب الله» تدريبها، هذا الصاروخ هو الموعد الثاني للدولة السعودية في مواجهة العدوان الأعجمي الفارسي هذه المرة، لكن الدولة اليوم تتمتع بكامل قوتها وعنفوانها وحضورها الدولي، والدرعية لن تكون في مرمى الأعاجم مرة أخرى.


مشروع القرار الكندي ضد انتهاك حقوق الإنسان في إيران، الذي تم التصويت عليه بأغلبية الدول في الجمعية العامة هذا الأسبوع، ثم مخرجات اجتماع وزراء الخارجية العرب الاستثنائي في القاهرة الذي أدان عدوانها على المنطقة، سيضع إيران و«حزب الله» تحت مزيد من الضغط الدولي. الاكتفاء بتصنيف الحزب ميليشيا إرهابية لم يعد كافياً، وليس محور النقاش، كون الحزب كان ولا يزال جزءاً من المكون السياسي للحكومة اللبنانية رغم هذا التصنيف، حتى الولايات المتحدة التي وصمته بالإرهاب منذ عام 1997 ظلت تتعاطى مع حكومة بيروت بهدف الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار. لم يعد من الممكن القبول بهذا الوضع الشاذ، وتقع المسؤولية بالدرجة الأولى على اللبنانيين أنفسهم، لأن لبنان أصبح حاضناً ومنطلقاً لنشاطات ميليشيا توسعت وتضخمت وتجبرت وتجرأت على أمن دول المنطقة خصوصاً الخليجية منها. 
ولذلك كانت استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري أول صوت لبناني يتصدى لـ«حزب الله»، من جهة مسؤوليته السياسية والأخلاقية عما يجري، وهذه بداية المواجهة وليست النهاية. على المجتمع الدولي والقوى العظمى استجماع قواها وإرادتها لتحجيم دور إيران العدواني، والتجاوب مع السعودية والدول العربية الداعمة لعمل جاد حازم، ينهي هذه المآسي التي غشت المنطقة العربية بسبب دولة واحدة ترعى الإرهاب بزراعة ميليشياتها في كل منطقة.
«حزب الله» اللبناني لا بدّ له من التخلي عن سلاحه، وتسليمه للدولة اللبنانية، فلا مكان لدولة داخل الدولة.