وحيد عبد المجيد

 عندما اختار أغلبية البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما أُطلق عليه «البريكست»، في يونيو 2016، طغى صعود التيارات اليمينية المتطرفة التي ترفض فكرة هذا الاتحاد على تهديدات أخرى تواجهه. وعلى مدى أكثر من عام، ظلت الأنظار مركزة على فرص هذه التيارات في الوصول إلى السلطة في عدد من الدول الأوروبية.

مرت الانتخابات الرئاسية الفرنسية في مايو الماضي، ثم الانتخابات البرلمانية الألمانية في سبتمبر، بسلام. ولم يؤد صعود حزب الحرية اليميني في انتخابات النمسا الشهر الماضي إلى قلق كبير، رغم أنه سيكون شريكاً في الائتلاف الحكومي الجديد الجاري تشكيله.

لكن أخطر ما ترتب على الانشغال الكامل بصعود اليمين المتطرف المعادي لفكرة الاتحاد الأوروبي هو إغفال التهديد المترتب على تنامي الحركات الانفصالية في بعض الدول، إلى أن وضع «زلزال» استفتاء كاتالونيا وتداعياته هذا التهديد في بؤرة الاهتمام.

ويرتبط التهديدان بمرجعيات قومية متطرفة تنهل منها حركات انفصالية تطالب باستقلال أقاليم في دول أوروبية عدة، وتيارات يمينية متشددة تنادي بالخروج من الاتحاد الأوروبي. لكن هذه التيارات وتلك الحركات تختلف في أمرين. أولهما أن الحركات الانفصالية في معظمها تتعدد انتماءاتها السياسية والاجتماعية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولا يجمعها إلا نزعة قومية متطرفة، بخلاف التيارات اليمينية المتشددة التي تتبنى برامج «نيوليبرالية» ترفضها الاتجاهات اليسارية والوسطية.

أما الاختلاف الثاني، والأكثر أهمية، فهو أن التيارات اليمينية المتشددة تهدف إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما تسعى الحركات الانفصالية إلى استقلال أقاليم محددة عن الدول التي تنتمي إليها، وإعلان قيام دول جديدة تنضم إلى هذا الاتحاد. فالانفصاليون في معظمهم ليسوا معادين لفكرة الاتحاد الأوروبي، ويدركون أن نجاح الدول الصغيرة التي يحلمون بها يتوقف على ارتباطها به ودعمه لها.

لكن هذا لا يعنى أن خطر الحركات الانفصالية على الاتحاد الأوروبي يقل عن التهديد الذي تمثله التيارات اليمينية المتشددة. فالدعوة الانفصالية التي ترمي إلى تقسيم الدول تناقض جوهر الفكرة الأوروبية الهادفة إلى أوروبا واحدة. ولا يتيسر لفكرة أوروبا الواحدة أن تكتمل، وربما لا يُقَّدر لها أن تعيش، إذا تنامت انتماءات إقليمية أو أقل من وطنية على نطاق واسع، لأن تغليب الانتماء الأوروبي العام سيصبح أكثر صعوبة. إن فكرة الانفصال تناقض فكرة التوحيد في معناها ومبناها. لذلك يُشَّكك نجاح حركات انفصالية في جدوى الجهود التي تُبذل منذ ستة عقود لتوحيد أوروبا.

الاتحاد الأوروبي، إذن، في أزمة عميقة غير مسبوقة لأنها تتعلق بإمكانات الحفاظ عليه، أي أنها أزمة وجودية بمعنى ما. لكن مؤسسات الاتحاد في بروكسل تتحمل مسؤولية كبيرة عن هذه الأزمة التي تعود أيضاً إلى عوامل داخلية في الدول الأوروبية. فقد استعجلت بيروقراطية الاتحاد الأوروبي في سعيها إلى تحقيق مزيد من الخطوات في اتجاه التوحيد، وتصرفت في بعض الأحيان بطريقة خلقت ردود فعل سلبية تراكمت مع الوقت، وأدت إلى استفزاز المشاعر السيادية لدى بعض الفئات في هذه الدولة أو تلك، وأعطت التيارات اليمينية المتشددة فرصة لاستغلال هذه المشاعر، والإيحاء بأن الالتزامات المترتبة على عضوية الاتحاد تُهدر فرصاً، وتحول دون انتهاج سياسات اقتصادية تُحقق نتائج أفضل.

كما أن قفز بيروقراطية الاتحاد الأوروبي على الواقع من دون توفر المقومات الضرورية وجه رسائل خاطئة، وأتاح لأصحاب الميول الانفصالية في بعض الأقاليم تعزيز موقفهم عبر إثارة سؤال قد يبدو للوهلة الأولى منطقياً لدى قطاعات من سكان هذه الأقاليم، وهو: إذا كان الهدف أوروبا واحدة، فما الفرق بين أن يكون أعضاء الاتحاد 28 أو 38 أو 48 دولة، طالما أن هناك إطاراً واحداً جامعاً؟

وربما تُنَّبه أزمة كاتالونيا بيروقراطية الاتحاد الأوروبي إلى أهمية مراجعة منهجها إذا أرادت الإسهام في حل أزمة لا تُمَّثل خطراً وجودياً على هذا الاتحاد فقط، بل تُهدَّد معنى أوروبا الحديثة في جوهره، أو أوروبا النهضة والتنوير والحداثة، أي منظومة القيم وأنماط الحياة الغالبة في الطور الراهن من الحضارة الإنسانية.

لقد باتت هذه الأنماط وتلك المنظومة مُهدَّدة جراء التطرف القومي سواء الذي يهدف إلى الانعزال عن أوروبا، أو إلى الانفصال عن دولها. والتطرف القومي ليس أقل خطراً من التطرف الديني، لأنهما وجهان للعملة نفسها من حيث رفض الآخر، والسعي إلى الانفصال عنه أو إلغائه، على نحو يناقض إحدى أهم الركائز التي قامت عليها أوروبا الحديثة.