إيلي الحاج

رأيان في الدائرة المحيطة بالرئيس سعد الحريري، والأمر لم يعد في نطاق الأسرار. الأول يحضه على التجاوب مع مساعي ترميم التسوية مع "حزب الله" وقيادة الاعتراض على توجهاته من داخل التركيبة التي أعلن استقالته منها بعد تحسين شروطه فيها، والآخر ينصح له بالسير في الجو الدولي والعربي واللبناني المناهض لسلاح "حزب الله" وسياسات إيران في المنطقة.

كان لافتاً توجيه شخصيتين بارزتين في "تيار المستقبل"، الوزير نهاد المشنوق والوزير السابق سمير الجسر، الشكر إلى رئيس الجمهورية ميشال عون على ما فعله من أجل الرئيس الحريري، وحضور كل منهما إلى القصر الجمهوري لهذه الغاية بعد انتقال الرئيس الحريري من الرياض إلى باريس، حين كان فريق سياسي وإعلامي من "المستقبل" يقاتل، إذا جاز التعبير، عبر الشاشات والبيانات، لدحض الدعاية القائلة إن الحريري لم يعلن استقالته من الرياض بملء حريته وإرادته. 

ليست في هذه البلاد أسرار تدوم أكثر من أيام. بعد ساعات على إعلان الاستقالة التلفزيونية، بنى فريق الدفاع عن "التسوية" منطقاً شبه متكامل لتبرير التمسك بها، مستعيداً دوافع أملت اللجوء إليها. بدءا بانقطاع مصادر التمويل لحركة الحريري السياسية مدى سنوات، حتى تلك الناتجة من شركات ومؤسسات يملكها في الخليج، إلى حمله على تأييد توجهات أضرت بصورته، أبرزها كان في المرحلة التي سُمّيت بالـ"سين- سين"، وصولاً إلى تحميله تبعات انعدام التوازن موضوعياً بين "فريق إيران" أو "حزب الله" في لبنان، والفريق الذي كان يواجهه، وذهاب رئيس "تيار المستقبل" تالياً إلى "تسوية" مع الحزب، مع الاحتفاظ بربط نزاع معه في شأن سلاحه وأوجه استخدماته إقليمياً. على هذا الأساس، ركبت سيبة ثنائية جاءت بمرشح "حزب الله" سابقاً الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية بأصوات غالبية ذات وزن في البرلمان، في مقابل تأليف حكومات يشارك فيها أطراف التسوية، ويترأسها الحريري على الدوام أو أطول مدة ممكنة. 

يعتبر أصحاب هذا الرأي أن الأفضل للبنان وللحريري، رغم كل ما شهدته الأيام والأسابيع الماضية، أن يعود عن استقالته، أو أن يرفضها رئيس الجمهورية، أو تبقى معلقة لمرحلة ما تُفتح خلالها أبواب التفاوض والأخذ والرد على تسوية جديدة من خلال إحياء طاولة حوار حول سلاح الحزب بمسمى "الاستراتيجيا الدفاعية"، أو ما شابه، خصوصاً أن الأمين العام لـ"حزب الله" كان ليّناً في كلمته الأخيرة، وترك مساحة للتفاهم وإعادة النظر في أدوار قوات "حزب الله" خارج لبنان، نافياً التورط في أعمال عسكرية وأمنية ضد السعودية من اليمن، والتي أشعلت شرارة الإستياء الشديد في الرياض. يعوّل هؤلاء على دور لفرنسا ومصر في إقناع القيادة السعودية الجديدة بضرورة هذا المخرج للمحافظة على استقرار لبنان وعدم الزج به في أتون الصراعات الملتهبة في المنطقة. وهم لا يخفون غضبهم وشكوكهم في أي طرف أو شخصية تقيم علاقات جيدة بالمملكة العربية السعودية هذه الأيام، وبعضهم يذهب إلى توجيه اتهامات بالأسماء في كل اتجاه.

يرى أصحاب الرأي الآخر أن "التسوية" مع "حزب الله" سقطت، والعودة إليها ضرب انتحار لـ"تيار المستقبل" الذي قام بواجباته وأكثر. لكن الحزب لم يلتزم بنودها، وأهمها "النأي بالنفس" عن مزيد من التورط العسكري والأمني ضد الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، وضرب علاقات لبنان بها من خلال التهجم الكلامي وغيره، والامتناع عن جر لبنان إلى الوقوف بجانب النظام في سوريا، كما عن فرض نوع من هيمنة على قرارات الدولة اللبنانية ومؤسساتها. ويعتبرون أن عدم إصرار الرئيس الحريري على الاستقالة فعلياً ونهائياً سوف يعني تثبيتاً لمقولات مسيئة إلى سمعة الرياض، وتتعلق بظروف إعلان الاستقالة من الرياض، وقد روَّجها "حزب الله" خصوصاً في الداخل، ووزير الخارجية جبران باسيل في الخارج، مما أثار انزعاجاً إضافياً حيال لبنان الرسمي لدى السعودية. 

غني عن البيان أن أي زعيم لبناني مسلم سني لا يمكنه اليوم أن يكون في موقع السياسي المتقدم داخل بيئته إذا لم يكن على وئام مع المملكة. ولّى زمن كان يستطيع خلاله زعماء لبنانيون سُنّة التنقل سياسياً في المساحة المتاحة بين القاهرة والرياض وبغداد ودمشق. والحاصل أن "التسوية" اللبنانية سقطت في بيروت أولاً، وكان دوي سقوطها عظيماً في الرياض. ثمة حلفاء أو أصدقاء لبنانيون حاولوا طويلاً وبجهد التستر على الخبر لكنه شاع، فليس في هذه البلاد أسرار. والسبيل الوحيد المفتوح أمام الحريرية هو أن تسلك طريق البطولة سياسياً في عيون المسلمين واللبنانيين عموماً. بطولة التصدي لـسياسات "حزب الله" وسلاحه ومن خلفه إيران، تساعدها الدول العربية بالتعامل معه في الجامعة بشبه إجماع، ولاحقاً في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي وكل مكان، على أنه "تنظيم إرهابي مشارك في الحكومة اللبنانية"، أي أنّ الاستقرار في ظل سلاحه يعني تأييداً لمواقفه وسلاحه في وجه العرب. ومَن يرغب في مشاركته هذه، باستمرار الحكومة الحالية أو تشكيل أخرى تشبهها، فليفعل. ثمة عقوبات على الطريق ضد "حزب الله" سوف تتلاحق واحداً تلو الآخر. ولن تمانع دول الخليج، إذا اضطرت، وأيضاً الإدارة الأميركية، في التعامل مع لبنان و"حزب الله" على أنهما واحد إذا لزم الأمر. 

ويقولون أيضاً إن ضلعاً من "التسوية" سقط مع الحكومة، وبقي منها الضلع الآخر: رئاسة الجمهورية المدافعة حتى اليوم عن سلاح "حزب الله". هل تصمد؟

[email protected]