طارق عزيزة

في كتابه «نشوء الشرق الأدنى الحديث»، أشار البروفسور البريطاني مالكوم ياب إلى «كارثة ديموغرافية للشرق الأدنى»، حدثت بين 1912 و1923، وهي الفترة التي شهدت اندلاع حروب البلقان والحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية. يذكر ياب، وهو المتخصص في تاريخ المنطقة الحديث، أن «20 في المئة من سكان الأناضول لقوا مصرعهم وهاجر 10 في المئة منهم، ولقي 40 في المئة من الأرمن و25 في المئة من اليونانيين و18 في المئة من المسلمين حتفهم».

ياب تحدّث عن شعوب عدّة وبلدان مختلفة، وحوادث جسام على امتداد نحو عقد تخللته أكثر من حرب، إحداها عالمية. على هذا النحو يمكن المرء، من خلال مطالعة الإحصاءات «الديموغرافية» المفجعة والمفزعة في آن، المتعلقة بشعب واحد في بلد واحد وفترة زمنية أقل، أن يدرك الأسباب التي دفعت بالأمم المتحدة إلى وصف ما حصل في سورية بالكارثة الإنسانية الأخطر التي يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

قبل نحو عامين، قُدّرت نسبة الوفيات في سورية بنسبة 10 في الألف، وعدد الجرحى بنحو 1.88 مليون نسمة، أي إنّ ما يقارب 11.5 في المئة من السكان إمّا قتلى أو جرحى نتيجة للنزاع المسلح، وفقاً لتقديرات المركز السوري لبحوث السياسات. ووفق بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNCHR)، فإن عدد اللاجئين السوريين المسجلين في دول الجوار فقط، أي تركيا ولبنان والأردن والعراق إضافة إلى مصر، قد قارب خمسة ملايين لاجئ (بلغ عددهم حتى منتصف آب (أغسطس) 2016: 4.808.229 لاجئ). في حين وصل عددهم في أوروبا في الفترة نفسها، إلى أكثر من مليون ومئة وعشرين ألفاً (1.120.132).

لا يدخل في حساب أعداد اللاجئين ولا القتلى، مئات وربما آلاف، الضحايا الذين قضوا في البحر الأبيض المتوسط، خلال محاولات العبور إلى أوروبا باستخدام «قوارب الموت». ولمّا كانت منظمة العفو الدولية (Amnesty) أكدت أن «واحداً من بين شخصين ممن يعبرون البحر الأبيض المتوسط في السنة، أي نصف مليون شخص، سوريون فروا من النزاع في بلدهم»، فمن المرجح، منطقياً، أن نصف «المهاجرين غير الشرعيين» الذين ابتلعهم المتوسط في السنوات القليلة الماضية سوريون أيضاً. هذه ليست الأرقام الأحدث، وهي الآن أكبر بلا شك، فآلة القتل لم تتوقف بعدها، هذا عدا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية للكارثة.

إن الكارثة السورية تشكّل نموذجاً مستمرّاً يكشف عن مآلات «الربيع العربي» كما أرادت له قوى الإقليم و «المجتمع الدولي» أن يؤول، لا كما أراده شبان وشابات ميادين الحرية وساحات التظاهر قبل سنوات تبدو عقوداً لفرط ثقلها. فإذا كانت المحطات «الربيعية» الأخرى قد أنجزت الخطوة الأولى من مهام الثورة، ممثلة بإطاحة رأس النظام الديكتاتوري، قبل أن تنزلق أوضاعها في الفوضى والاقتتال الداخلي، كما في اليمن وليبيا، أو تنجح سلطة الاستبداد في إعادة إنتاج نفسها برأس جديد كالحالة المصرية، فإنّ ديكتاتور سورية ما زال في موقعه، فيما البلاد غرقت في الفوضى والإرهاب والتدخلات والاحتلالات الخارجية. هُجّر نصف سكانها، ودمّرت مدن بأكملها، عن مئات آلاف القتلى ومثلهم من المعتقلين الذين لا يعرف مصيرهم.

هكذا، خيّمت على البلاد أجواء تمتزج فيها ملامح الحروب الأهلية مع بؤر الإرهاب الأصولي، لتخنق بقايا ثورة غابرة، تاجرت بها «معارضات» فاسدة مشرذمة وفاقدة للأهلية السياسية، فاستمر النظام الكارثي يقتات على ما سبق، ويرهن مقدّرات البلاد ومستقبلها لقوى خارجية، سعياً للبقاء والاستمرار.

ما من شكّ في أنّ تصاعد نفوذ الحركات الإسلامية عموماً، ونسخها الجهادية الأكثر تطرفاً على نحو خاص، كان لها أثر بالغ السلبية في مجريات ووجهة مسار ربيع سورية، إذ أسهمت في تعطيل ممكنات التغيير السياسي المنشود، وأفقدت الثورة الكثير من التعاطف العالمي، حتى على مستوى الشعوب. غير أنّه ليس بالسبب الكافي لأن تذهب كبريات عواصم القرار في «العالم الحر» إلى اختزال القضية السورية برمتها في «الحرب ضد الإرهاب»، وتنحية تطلّعات الشعب السوري المحقة نحو الحرية والعيش الكريم جانباً، بعدما كانت تلك العواصم نفسها تضع مسألة تنحّي الأسد في مقدمة أولوياتها. 

المفارقة أنّ هذا لم يتغيّر على رغم أن أكبر الفاعلين العسكريين في الحرب السورية، أي الطرفان الروسي والإيراني، أعلنا النصر والنجاح في القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية»، عنوان الإرهاب الأبرز. ثم ما الذي سيفعله هذان «المنتصران» في سورية، سوى إعادة صياغة النظام الأسدي بما يضمن مصالحهما، وهما اللذان حالا دون سقوطه، وهاهما يفرضانه طرفاً في «العملية السياسية» على رغم إيغاله المستمر في دماء شعبه، مما يعني محو كل أمل في تحقيق التغيير أو السلام الحقيقي المستدام. فالسلام لا يعني وقف الحرب فحسب وإنما إزالة أسبابها، وهنا ينهض السؤال: أي «سلام» هذا الذي علينا توقّعه على أيدي من أذكوا الحرب ويعملون اليوم لإعداد «تسوية» على مقاسهم؟

في عصر الكارثة السورية، تزداد الهوّة اتّساعاً بين البلاغة الإنشائية وتنميق الخطاب حول قيم الديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، وبين الواقع العملي الذي ما فتئت مصالح الدول والأنظمة المختلفة ترسم مساراته على حساب الشعوب، ضاربة عرض الحائط بأبسط المبادئ والحقوق البشرية. وإن تأثير لعبة القوة والتوازنات الدولية يتغلغل أكثر فأكثر في أروقة الأمم المتحدة، ويفرغ مواثيقها ومبادئها وقراراتها من مضامينها ومقاصدها، حتى بات دورها، أو يكاد، يقتصر على مباركة «تسوية» تسوّي تطلّعات الشعوب بالأرض، والتصفيق لنجاح أصحاب القرار في تحقيق «الاستقرار»!


* كاتب سوري