عبد العزيز المقالح

فقر الشعوب مثل غناها تماماً، ليس حالة دائمة لا يمكن تجاوزها، لاسيما إذا ما احتفظت الشعوب بوحدتها وتضافر كل أبنائها، وكم من شعوب على هذه الأرض اغتنت ثم افتقرت وأخرى افتقرت ثم اغتنت. وتحضرني في مدخل هذا الحديث حكاية أصغيتُ لها ذات يوم من عجوز ألماني، وهو يحكي عن معاناته وأسرته والملايين من مواطنيه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد كانوا يطوون الأيام الطوال وأيام الشتاء خاصة جياعاً يتضورون، ويبحثون عن أوراق بعض الأشجار وجذورها لإسكات صوت الجوع والمحافظة على الحد الأدنى من الحياة.

وفي أقل فترة من الزمن استطاع شعب ألمانيا أن يستعيد مكانته وينتشل نفسه ومواطنيه من براثن تلك المعاناة، وأن يواصل التطور مصحوباً بالتحدّي إلى أن أصبح ذلك العجوز وأمثاله ينعمون بحالة من الرفاه لم تكن تخطر على بال المتابعين لحال الشعب الألماني الذي خرج من الحرب مهشّماً ومقسماً.

الفقر إذاً، حالة عارضة وليس قدراً لا يمكن تجاوزه أو الانتصار عليه، شريطة أن تكون هناك رغبة شعبية في تحقيق هذا التجاوز وذلك الانتصار، وأن تتجلى تلك الرغبة في العمل المستمر والدؤوب. 

ولم تكن حكاية ذلك العجوز الألماني تختلف عن حكاية أكاديمي بريطاني زارني في مكتبي في جامعة صنعاء، وطلب كوباً من الشاي بدون سكر، وقال إن عادة تناول البريطانيين للشاي غير المحلّى يعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية بآثارها الشنيعة عندما عزَّ على المواطن البريطاني توفير قيمة ملعقة السكر، فقرر الشعب الإضراب عن تناول الشاي مصحوباً بما اعتادوا عليه من إضافة ملعقة السكر، وصار ذلك شأنهم بعد الحرب وحتى الآن، وهو واحد من الأدلة على مقدرة الشعوب في مواجهة الخطوب وما تفرضه عليها من ظروف استثنائية وإفقار.

وفي الوطن العربي اليوم أقطار تعاني الفقر، سواء تحت أجواء الحروب العبثية المفروضة أو تحت غياب الحد الأدنى من التخطيط الاقتصادي والإدارة الرشيدة، وسأضرب هنا مثلاً باليمن السعيد والذي كان سعيداً في الأزمنة الغابرة، فهذا القطر العربي يمتلك من الإمكانات ما يجعله في مقدمة الأقطار العربية غنًى ورفاهية، وتكفي الإشارة إلى أن شواطئه الغربية والجنوبية وشواطئ الجزر التابعة له تصل إلى أكثر من ألفين وخمسمئة كيلومتر، وهي من أغنى الشواطئ في العالم بالأسماك المختلفة والتي تشكل ثروة تنافس، ولا أقول تفوق الثروة النفطية، لكن العشوائية وغياب التخطيط وترك البحر نهباً للقريب والبعيد (اليابان، والصين، كوريا،....) واكتفاء الدويلات المتعاقبة بالمساعدات المالية من الأشقاء، كل ذلك جعل هذا القطر العربي في الإحصائيات الدولية في نهاية قائمة الدول الفقيرة!! 

وكثيراً ما يتحدث من يوصفون بالمتخصصين عن مشكلة تزايد السكان، وكيف أن هذه الزيادة المتوالية تأكل الإمكانات وتسبب في حالة الإفقار الكامنة في بعض الأقطار العربية، وكأن لا أحد من هؤلاء المتخصصين يقترب مما يحدث في الصين هذا الشعب الذي بلغ تعداده في إحصائيات أخيرة ما يوازي أكثر من ربع سكان العالم، ومع ذلك فقد نجح في أن يكون الأقوى اقتصادياً وصناعياً، وجعل من هذه الزيادة في السكان عاملاً مهماً في تحقيق هذه القفزة، وتحوّل كل إنسان إلى قوة فاعلة ومنتجة، فلا مكان لعاطل أو متسوّل، وذلك عكس ما يحدث في بلادنا العربية، حيث تأكل البطالة والفراغ والتسييس المنحرف ملايين الأيدي العاملة، وتتحوّل الوفرة في السكان إلى وفرة في المشكلات وإلى فقر يطحن المجتمع ويصادر قدراته ويهدد وحدته واستقراره.