عبدالله الحسني

لعل من أهم ميزات الشِّعر والأدب والفنون المختلفة أنها تأخذ بُعداً حضارياً كونياً ينتصر فيه الجمال على أي أفكار أو مناهج ضيّقة تحاول أسْرَهُ داخل حِسٍّ جمعيٍّ تهيمن عليه الأيديولوجيا وتسعى لاستنهاض هِمَمِهِ باللعب على وجدانه وتهييجه عاطفياً وكذا تغييب فاعلية عقله.

ولذا فإنّ رحيل أي مبدع في أي حقل من تلك الحقول الثقافية التي يشكّل الشّعرُ صوتها الأبرز يُعدُّ خسارة فادحة ليس على المستوى الوطني فقط وإنما الإنسانية جمعاء.

بالأمس فُجعَ الوطن برحيل أب الأغنية السعودية ورائدها وأحد سدنتها الكبار الذين جذّروا حضورها وتواجدها المشرّف في كل أصقاع العالم، شاعر الوطن الفذ والكبير إبراهيم خفاجي -رحمه الله- الذي كان من قلائل نادرة حافظت حتى آخر يوم من حياتها على جمرة الشِّعر مُتّقدة؛ فهذا الشاعر المثقف الكبير والطاعن في رهافته وشِعريّته وحنينه كان يحمل بين جوانحه مواقد الكلمة العذبة المجنّحة يُلهِبها أنّى شاء على جمر مخياله الشعري موظّفاً تجربته الحياتية الثرّة لتقديم أعمال إبداعية خلاّقة؛ فالخفاجي شاعر نزّاع الى استلهام الموروث الشعبي الشاسع والضارب في رسوخه، شاعر مشبوب الخيال وبارع في اصطياد عصافير الدهشة، يسبك انهمامه الشعوري باحترافية ومَعلميّة فنان ضالع في السّبك لنظفر في نهاية مطاف التميز بقصائد خالدة لا تلبث أن تكون رسائل عِشقيّة تنضح محبّة وافتتان يتناقلهما الرواة.

هذا هو الخفاجي سلسلة إبداع أخّاذ متّصل وخالد، فهو من استطاع بتفرّد لافت أن يُفَكرِنَ القصيدة ويجعلها زاداً غنيّاً لعشّاق الإبداع بعد أن تشرّبت قصيدته من شاعريته الرقيقة ومعانيه الأنيقة التي يتوامض بريقُ رهافتها على جسد كلماته في غير تصنُّع وابتذال، وهي مهارة وحذق فنّي لا يؤتاه إلا الراسخون في الحنين والطاعنين في التجربة والثراء المعرفي والإنساني وممّن يجوهرون مفرداتهم فتغدو تسرُّ النابهين للشّعر وفنونه.

الكتابة عن الخفاجي ليست من السهولة بمكان، فهو يتمتع بشخصية موسوعية إن على المستوى التراث الشعري أو التمكّن المذهل من فنون الغناء وطرائقه، والألوان الشعبية لمملكتنا الحبيبة، الشاسعة الحضارة والغنى الموضوعي والفني حدّ الدهشة بالألوان والفنون والموروث الضارب في عمق التاريخ، ومن يستمع لحوارات الراحل ولقاءاته العديدة على امتداد تجربته أو حتى آراء كبار فنانينا الذين شكّل معهم مسيرة ابداعية خالدة كطلال مداح ومحمد عبده وطارق عبدالحكيم وجميل محمود وغيرهم، يدرك موسوعية هذا الطود الثقافي الشامخ، والذي لم يكن مجرّد شاعر ينسج المعاني الجميلة في ثوب شعري قشيب، بل كان مُلمّاً ببراعة وتمكُّن من الألحان والمقامات الموسيقية؛ بل إنه كان مرجعاً يتّسم بالموثوقية وصل معه الأمر أن يقوم بتحفيظ بعض الفنانين المقامات وطرائق أدائها "محمد عبده مثالاً".

أما مآثر الراحل الكبير وأدواره التاريخية في مسيرة الثقافة والفن وخدمة التراث السعودي، فيكفيه خلوداً أنّه الشاعر الذي حظي بشرف كتابة النشيد الوطني السعودي.

أما دوره في ترسيخ الجمال والأغنية كقيمة إنسانية وحضارية فهي من الكثرة والتفرّد والنبوغ ما يجعل سردها بالغ الصعوبة فهي مسيرة إبداع طويلة وهو ما ينسحب على مسيرته ومحطاته الحياتية والوطنية المختلفة التي توجت بتكريم من الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- في مهرجان الجنادرية وهو ما يعكس تقدير واحتفاء القيادة بالرموز الوطنية وتكريمها.