سمير عطا الله

 كان يسمي نفسه «فنان الهدم». وكان لا بدّ من هدم الكثير من هذه المدينة التي هي عبارة عن خربة تنمو فيها الأعشاب وتيبس، ويموت أربعة من خمسة أطفال في عامهم الأول، كما كتب الخبير الاقتصادي فيكتور كونسيديران.

جاء «فنان الهدم» وقال، متقززاً، «ابعدوا هذه البثور عن وجهي». ثم راح يدمر الأزقة والحارات الملوثة. وأقام مكانها الجادات الوسيعة التي يمكن للفرسان وعربات المدافع أن يمروا عليها بسهولة. وتشجع تجار العقار فأقاموا المشاريع الكبرى من حولها. وربط كل هذه الجادات بدائرة مركزية هي «الإتوال» أو النجمة، الساحة التي تنتهي عندها أشهر جادة في العالم، الشانزليزيه.
كلما عبرتَ جادات باريس من ضفة إلى ضفة، تعبر في منجزات جورج - أوجين هوسمان، الذي كلَّفه أن يجعل من باريس منتصف القرن التاسع عشر «عاصمة إمبراطورية كبرى ومقر ملك عظيم». فمضى في تحقيق ذلك بلا تردد.
تضاعفت عاصمة فرنسا إلى 8 آلاف هكتار. وأصبحت باريس من زينة المدن، أو زينتها. لكن كالعادة، تكاثر الحاسدون والحاقدون، مدّعين أن التكاليف باهظة، وفيها فساد. وأدت الحملة إلى إقالة هوسمان عام 1870، فانصرف إلى كتابة مذكراته وعزلته إلى حين وفاته عام 1891.
لكن المدينة التي تركها هوسمان كانت أهم ما حدث خلال حكم نابليون الثالث. وعندما يتمتع الناس اليوم بحدائقها وجمالياتها، لا يعثرون على اسم مخططها إلا على بولفار عريض واحد. ويقال إن الجنرال ديغول، عندما أصيب بضعف النظر، كان يؤلمه أنه لم يعد يتمتع بجمال المدينة كما من قبل، وفي الوقت نفسه كان يكره أن يضع نظارات سميكة لأنها تدل على الشيخوخة. ولذا، شعر أنه لا يرى جيداً الجماهير التي تخرج إلى ملاقاته وتحاول الوصول إليه.
تلحظ في بعض المدن وكأن التاريخ من حولك. لكن لم يرتبط اسم مدينة باسم مهندسها كما ارتبط اسم باريس بـ«البارون» هوسمان، وهو لقب نبيل لم تعطه إياه الدولة، بل الناس، ولذا لقب «البارون المزيف». أو لعلها ليست مدينة هوسمان، بقدر ما هي مدينة نابليون الثالث، الذي وضع في تصرفه الموازنات الكبرى وعشرات آلاف العمال. وعندما شرع هوسمان، «فنان الهدم»، بهدم المباني المتداعية، كان أول ما هدم، المنزل الذي ولد فيه.
لم يغير هوسمان باريس وحدها. فقد قُلّدت أفكاره ومشاريعه في بروكسل وفيينا واستوكهولم ومدريد وبرشلونة. وقام فريدريك لو أولمستد، مهندس «سنترال بارك» في نيويورك، بنقل ما استطاع من هندسة «غابة بولونيا».