هدى الحسيني

 تخبرني سيدة مشرقية كانت في وفد إلى روسيا للقاء الرئيس فلاديمير بوتين. أثناء الحوار قال لهم بصراحة: «تريدون ديمقراطية اذهبوا إلى الولايات المتحدة. تريدون أمناً واستقراراً يحمي اقتصاد دولكم الثرية، تحدثوا معنا».

المجزرة المروعة التي وقعت أخيراً في سيناء تكشف الكثير من هذا المنطق. لا ديمقراطية تزدهر في ظل تهديد إرهابي معشش في كل زاوية. انتصر الغرب على «داعش» و«النصرة» في العراق وسوريا، فكان المسرح الجديد ليبيا. ثم بدأت غارات أميركية تلاحق «الشباب» في الصومال، لكن هذه المنظمات لا تختصر كل الإرهاب، هناك دولة، وبسبب موقعها الجغرافي، تشكل أهمية كبرى للغرب الذي يحارب الإرهاب، كما أن تاريخ مشاركتها في الحملات الرامية إلى تحقيق الاستقرار مشهود له.
إنها تشاد الذي اختار الرئيس الأميركي دونالد ترمب فرض حظر السفر على رعاياها إلى أميركا. وعلى الرغم من أن سجل تشاد الديمقراطي ليس بالمشجع، فإن الحظر يعتبر غير منطقي بسبب دور تشاد كقوة استقرار في جنوب منطقة الساحل الأفريقي.
المعروف أن الزيارة الأولى التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما انتخب كانت إلى مالي، وفي سبتمبر (أيلول) الماضي قام الرئيس التشادي إدريس ديبي بزيارة باريس للتوقيع على اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي الذي سيمنح تشاد قرضاً بقيمة 8.3 مليار دولار يغطي سنوات 2017 حتى 2021. هدف الخطة مساعدة تشاد في أزمتها الاقتصادية الحادة، وتعكس في الوقت نفسه الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها تشاد في مكافحة الإرهاب، لكن على الرغم من الدعم المالي، فإن الضغوط السياسية المحلية التي تهدد تشاد يمكن أن تؤثر على دورها كقوة استقرار في المنطقة.
فرنسا تعرف أهمية تشاد. استخباراتها ساعدت إدريس ديبي عام 1990 على إطاحة الرئيس حسين هبري. وفي أبريل (نيسان) من العام الماضي فاز ديبي بولاية خامسة في الانتخابات، وتمكن من تشديد سلطته أكثر، على الرغم من المحاولات الكثيرة لإطاحته. ومنذ مجيئه إلى الحكم نجح في جعل تشاد شريكاً لا مفر منه للأمن الدولي في القارة الأفريقية، وفي زيارته الأخيرة إلى باريس سعد بتهنئة ماكرون ورئيس وزرائه إدوار فيليب على عمله ضد الجماعات الإرهابية في المنطقة. وفي خطابه أشار ماكرون إلى أن مكافحة الإرهاب هي أولوية رئيسية لإدارته. ونتيجة لذلك، تعتبر المساعدات المالية المقدمة إلى تشاد، وسيلة للحفاظ على استقرار هذا الشريك القوي في المنطقة.
أثبت الربيع العربي أن استقرار الدول الأوروبية يعتمد على إرضاء الدول الفقيرة أو النامية. وكان البرهان الأكبر، بعد سوريا، ليبيا.
تقع تشاد عند مفترق طريق شمال أفريقيا وجيرانها تحديداً، نيجيريا، جنوب السودان وليبيا. الدول الثلاث التي تعاني من تهديد التطرف، وبالذات من «بوكو حرام» في نيجيريا، أما دولة جنوب السودان فقد أثبتت منذ استقلالها أنها دولة فاشلة، في حين أن الميليشيات المسلحة في ليبيا تأوي العناصر المجرمة التي تكاد تهز الأمن القومي المصري. وأذكر أنه مرة عندما كنت في تشاد غزت ليبيا صحراءها، فكانت القوات الفرنسية من صدّ الهجوم يومها، ولذلك ونظراً لموقعها الجغرافي تعتبر تشاد استراتيجية لمصالح البلدان الغربية وعلى رأسها فرنسا كما لمصالح مصر في مواجهة الإرهاب.

تشاد عضو مهم في تحالف مجموعة الدول الخمس في الساحل الأفريقي، وتسعى مع مالي، وموريتانيا، وبوركينا فاسو، والنيجر إلى تعزيز التعاون والأمن في منطقة الساحل، كجزء من عملية «برخان» (خطة عسكرية أطلقتها فرنسا عام 2014 للقضاء على الجماعات المسلحة في الساحل الأفريقي، ومقر قيادتها إنجامينا العاصمة التشادية، حيث ينتشر 3 آلاف جندي فرنسا).
تشاد واحدة من الدول الأفريقية النادرة التي توصف بـ«شريف» المنطقة، على أساس أنها تقود مصالحات وتنجح بها. ويقول أحد الباحثين في العلوم السياسية التشادية، إن الحكومة التشادية أجرت عدة مفاوضات مع الجماعات المتمردة والحكومة السودانية التي كانت توفر ملاذاً آمناً لها. بعد المفاوضات وعلى إثر الاتفاق بين تشاد والسودان وافق الجيش النظامي التشادي على ضم أغلب الثوار إلى صفوفه، فوفر هذا نسبة من الاستقرار حتى ولو استمرت بعض المجموعات في اعتراضها على سلطة ديبي.
انتخاب ماكرون قوى العلاقات بين الدولتين، نظراً لتركيزهما على مكافحة الجماعات المتطرفة، مثل «بوكو حرام» و«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
يوجد نفوذ «بوكو حرام» بقوة في تشاد حول بحيرة تشاد، التي تقع داخل الأراضي التشادية، وهي تجمع المناطق الغنية للزراعة والرعي وصيد الأسماك، وقد استفادت «بوكو حرام» من جغرافية البحيرة فاجتاحت الكثير من الجزر، لذلك ولمواجهة التهديد المستمر، في الوقت الذي عليها أن تستجيب للاحتياجات الفورية والطويلة الأجل للسكان، فإن السلطات التشادية تحتاج أن تبني على التعاون الأمني الإقليمي الناجح نسبياً، وأن تبدأ في الابتعاد إلى حد كبير عن ردها العسكري بحيث تعتمد على أساليب مدنية أكثر أهمية.
لقد نشر إدريس ديبي جنوده على جبهات متعددة، في جمهورية أفريقيا الوسطى وفي مالي. ومؤخراً في حوض بحيرة تشاد لمحاربة «بوكو حرام»، متبعاً الاستراتيجية الدبلوماسية العسكرية لقيادة مكافحة الإرهاب في المنطقة. وقد ساعد الإنفاق العسكري تشاد على توسيع مشاركتها خارج الحدود الأفريقية، حيث إنها تدعم التحالف العربي - الدولي لمحاربة الحوثيين في اليمن.
تشاد هي أيضاً شريك مهم في أزمة الهجرة الحالية التي تعاني منها أوروبا، حيث يحاول كثير من اللاجئين الوصول إلى ليبيا عبر الحدود التشادية، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية وجد الكثير من اللاجئين السودانيين ملجأً فيها. ومن العلامات الأخيرة على التأثير السياسي المتنامي الذي تشهده تشاد جاء انتخاب موسى فكي محمد وزير خارجيتها السابق، رئيساً للجنة الاتحاد الأفريقي.
نتيجة هذه المشاركة الموسعة ارتفع الإنفاق العسكري الإجمالي في تشاد خلال السنوات الـ13 الماضية. وفي سبتمبر الماضي هدد ديبي، في محاولة للحصول على المزيد من النفوذ والمساعدات من بلدان أخرى، بعدم المشاركة في تحالف مجموعة الدول الخمس في منطقة الساحل، والمطالبة بسحب جزء من القوات الأجنبية المنتشرة في بلاده إذا لم تحصل تشاد على دعم مالي قوي.
على الرغم من أن تشاد تبدو قوية بفضل قوتها العسكرية الصلبة ومؤسساتها السياسية المستقرة، فإن المعارضة بدأت تشتد وتواجه الحكومة انتقادات فيما يتعلق بحقوق الإنسان والقضايا الديمقراطية، ثم هناك الأزمة الاقتصادية، بسبب انخفاض أسعار النفط.
تشاد أثبتت قوتها والتزامها بمحاربة المجموعات الإرهابية، وأرسلت قوات نظامية إلى كثير من الدول الأفريقية وغيرها لمحاربة الإرهاب. الدول المجاورة لها منهارة تماماً مثل ليبيا وجنوب السودان وكلها مفتوحة على مصر. إن «بوكو حرام» ليست التهديد الوحيد للاستقرار السياسي في تشاد. الأزمة السياسية تجعل منها أرضاً خصبة «للجهاديين». فرنسا ماكرون تدرك ذلك، فهي تحث ديبي على أن يدعو إلى انتخابات برلمانية جديدة كان ديبي أرجأها حديثاً بحجة عدم كفاية الميزانية. فرنسا ماكرون ترغب في العودة بقوة إلى أفريقيا وإلى الشرق الأوسط. تعرف أن أي فراغ يسببه ضعف اقتصادي أو سياسي قد يملأه إرهاب، أو تتطلع إليه إيران التي أصبح لديها موطئ قدم في بوركينا فاسو. وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لي دريان حث ديبي على إجراء انتخابات، مذكراً بأن الدعم الفرنسي كان مشروطاً بوجود نظام ديمقراطي، وهذا يعيدنا إلى قول بوتين: إذا أردتم ديمقراطية اذهبوا إلى أميركا.
ماذا إذا رفض ديبي الشروط الفرنسية، فهل تتراجع هي وأوروبا عن دعم تشاد، الدولة التي حاربت وتحارب الإرهاب؟

بعد نتائج الربيع العربي، ارتفعت أسهم المثل العربي: «شر تعرفه ولا خير تتعرف عليه». والساحل الأفريقي له بابان واحد يطل على مصر/ سيناء وآخر على الملعب الخلفي لأوروبا!