أحمد المرشد

 تمر مصر في وقتنا الراهن بظروف غاية في الصعوبة، فهي تواجه أكثر من حرب ضروس، فالإرهاب يحاصرها ويأبى الإرهابيون التخلي عن أغراضهم الدنيئة بتحويل مصر الى دولة فوضوية مثل بعض الدول العربية على غرار ما يحدث في سوريا وليبيا واليمن وربما العراق رغم أنه بدأ يضمد جروحه في الآونة الأخيرة.

وإذا جاز التعبير، فقد نقول إن جروح مصر ليست بالهينة، فلا يكاد يمر أسبوع إلا وشن التكفيريون والمتطرفون عملية إرهابية هنا وهناك، وكان آخر هذه العمليات مأساوية هي تعرض أحد مساجد مدينة العريش المصرية لعملية قتل وحشية للمصلين أسفرت عن استشهاد أكثر من 305 مصلين كل ذنبهم أنهم ذهبوا للمسجد لأداء شعائر الصلاة، ولم يكن هؤلاء في ملعب كرة قدم أو مرقص ليلي حتى يتم تكفيرهم، فالصلاة في المسجد وهي واجبة وفرض على كل مسلم ولكنها أصبحت في عرف المتطرفين جناية تستحق القتل.. فهكذا هو دين الإرهابيين وديدنهم، فالقتل مبتغاهم وتشريد المدنيين هدفهم.
لقد اتسع نطاق الحرب في مصر، ولم تعدْ كما كنا نعهدها زمان، حرب بين جيشين، عدو غاشم مغتصب ومحتل أرض، وجيش يريد تحقيق الانتصار واستعادة كل ما هو مسلوب، فالمصريون في الحروب معروفون بأنهم أشداء على أعدائهم الظاهرين في ميادين القتال، ولكن المشكلة أن العدو الآن خفي ووهمي يعيش وراء ستار أو جدار، ويتسلح بالوجه الملثم. وبالتالي، يحارب المصريون طواحين الهواء في حرب ربما تطول ولن تنتهي في يوم وليلة، وذلك لأسباب عدة، لعل من أهمها أن الحرب اتسعت ولم تعد قاصرة على مواجهة الإرهاب والإرهابيين، وإنما تشهد الخريطة أعداء جدد تدفعهم قوي إقليمية ودولية لتحريض مصر أو استفزازها للدخول في مواجهة عسكرية أو حرب واسعة النطاق.
فمن يقترب من الخريطة المصرية يستشف في الوقت الراهن أن ثمة خلاف عميق في الرؤي بين مصر وإثيوبيا يتعلق بملف المياه وسد النهضة الذي يبنيه الإثيوبيون على النيل الأزرق الرافد الأكبر لحصة مياه مصر من نهر النيل، وترفض أديس أبابا الرضوخ للغة الحوار والعقل والتفاوض، حتى اشتعل الموقف لدرجة أن جزءًا كبيرًا من النخبة المصرية يطالب قيادته وحكومته بضرورة اللجوء الى الحل العسكري لحسم الخلاف لصالح المصريين والحفاظ على حصتهم التاريخية من المياه وعدم التعرض الى جفاف مائي يحذر منه الجميع.
ويشهد القاصي والداني أن ممارسات إثيوبيا تجاه مصر مثيرة للقلق والانزعاج فيما يتعلق بشأن معايير ومحددات بناء وتشغيل سد النهضة، فوفقاً للأرقام الرسمية، تحصل مصر على 85% من مياهها من رافد النيل الأزرق، في وقت تعاني فيه مصر فعلياً من فقر مائي، ولا يتعدى نصيب المواطن 660 مترًا مكعباً في العام، وهذه الكمية مرشحة للانخفاض الى 552 متراً مكعباً في 2025.. ومن هذا المنطلق، فمصر أمام أزمة مياه ضخمة تجعل أمنها المائي في خطر، في حين لا يوجد في الجهة المقابلة أي نية صادقة للتعاون إذ لا تزال الخطط الإثيوبية لتشغيل السد واستخدام مياهه في الري غامضة ومثيرة للقلق، ولم تبدِ أديس أبابا الانفتاح الكافي على مبادئ التعاون والشفافية والمشاركة، باعتبار أنها تُمثل السبيل الوحيد للاستفادة من مياه نهر يسكن على ضفاف حوضه 400 مليون إنسان، وهم مرشحون للزيادة الى مليار شخص في عام 2050.
إذن، تعد ندرة المياه واحدة من أخطر التهديدات التي تواجه الأمن القومي المصري، ليس هذا فقط، فـ 40% من سكان العالم العربي يعيشون في مناطق تعاني من ندرة مطلقة في المياه، فيما يمثل العرب 5% من سكان العالم، ولا يحصلون سوى على 1% فقط من المياه العذبة، بما يعني أن المنطقة العربية تعاني من أكبر عجز غذائي في العالم.
من أزمات مصر أنها تواجه المعارك بصورة يومية بما يؤكد أن هناك محاولات جادة لإحراقها وإقحامها في الفوضى الخلاقة أو غير الخلاقة التي يسعى أعداء أمتنا العربية لفرضها على شعوب المنطقة، وإذا كانت مصر قد مرت بفترة حرجة غاب عنها ترجيح العقل في اتخاذ القرارات المصيرية وذلك فيما تلا 25 يناير وحتى ثورة 30 يونيو التصحيحية، إلا أن القيادة المصرية الحالية تتسم برجاحة العقل والتأني في اتخاذ القرارات وتحارب الإرهاب بلا هوادة في وقت تواجه فيه أزمات اقتصادية وطموحات شعبية لا تتفق مع الواقع الاقتصادي.. كانت مشكلة مصر والمصريون عقب 25 يناير أن الدولة المصرية تسير بلا عقل تقريباً وبعيدة تماماً عن العقلانية، ولكنها في الوقت الراهن عاد العقل المدبر الذي يحسن قيادة مصر وأخرجها من مرحلة الشعارات الرنانة الى مرحلة العمل الجاد والالتزام بتحقيق برنامج اقتصادي واجتماعي وصحي ضخم، ولعل هذا البرنامج هو سبب الحروب التي تواجهها مصر، فأعداؤها لا يتركونها ساعة تهنأ بما تحققه من انجازات اقتصادية على المستوى المحلي، وإنما يسعون دائماً الى إرباكها وإيقاعها في مشكلات دائمة حتى تظل بعيداً عن ركب التقدم الاقتصادي والسياسي، فثمة أيادٍ خفية تعمل من أجل إشعال مصر وعدم الخروج بأية مكاسب من ثورة 30 يونيو، حتي تكون صورة كربونية مما يحدث في سوريا وليبيا واليمن، ولكن المؤكد أن الشعب المصري كما أظهر دائماً فهو عصي على الانهيار والهزيمة ولن يقبل المصريون تورط بلادهم وجرها الى حروب استفزازية تنال من مستقبل بلادهم.
وإذا كنا قد أِشرنا الى ملفي المياه والإرهاب، فهذا واقع تعيشه مصر والمصريون حالياً، وهم يواجهون التطرف والمتطرفين بكل صلابة، الشعب قبل الجيش والشرطة، فالمعركة ليست معركة طرف دون آخر، فالمصريون جميعهم شركاء في الحرب ضد عدوهم المتمثل في الإرهاب الذي يسعى للنيل من عزيمتهم وقوتهم وإغراقهم في الفوضى وإحراق بلادهم وإشعالها بالأزمات.. ومن هنا ننتقل الى حرب أخرى تواجهها مصر على حدودها الغربية، ونقصد ليبيا بكل مشكلاتها وأزماتها السياسية، فليبيا لم تعدْ الجار الآمن لمصر، حيث تواجه الدولة المصرية خطرًا متزايدًا من جانب حدودها مع ليبيا ما يهدد أمنها القومي وقد يدفعها إلى الدخول في حرب بالوكالة داخل الأراضي الليبية للقضاء على الجماعات الإرهابية المنتشرة في جميع أنحاء الأرجاء الليبية التي تنقسم ما بين عسكري وسياسي وقبائلي ومناطقي، في وقت فشلت فيه كافة المساعي الدولية لإعادة السلام والاستقرار إليها، ومن ثم تصدر ليبيا للمصريين ومصر أزمات شبه يومية، من بينها تسلل الإرهابيين الدواعش منها لداخل الحدود المصرية مسلحين بأحدث الأسلحة المحمولة والثابتة التي يتكلف نقلها ملايين الدولارات ومع ذلك يجدون من يمول عملية النقل والتسليح والإعاشة، أي ثمة ممول رئيسي لكل ما تتعرض له مصر من أرهاب قادم من داخل الحدود الليبية.
ومن الأزمات التي تواجهها مصر حالياً، ما يحاك ضدها من مساعي لتوريط جيشها في حروب لا طائل منها سوى انهاكه وتشتيت جهوده، مثلما كان الحال في حرب اليمن التي تورط فيها الجيش في ستينيات القرن الماضي وما أعقبها من استغلال إسرائيل لهذا الضعف وشن حرب 1967. والجديد على الحدود الليبية، أن الجيش المصري يتعرض لاستفزاز مما يحدث على منطقة الحدود من تهريب أسلحة وتسلل متطرفين، ولن نقول سرًا إن الهدف من كل هذه الاستفزازات هو اسقاط الدولة المصرية بعد أن نجت من فوضى ما يسمى ثورات الربيع العربي الفاشلة، وبعد أن نجح المصريون تحت قيادة رئيسهم عبدالفتاح السيسي من تجاوز مرحلة الفوضى الى مرحلة البناء والتعمير، وما يكفيهم حالياً سوى الانتظار لحصد الثمار.
لقد تأكد للجميع أن الشعب المصري يختلف عما سواه من شعوب بعض الدول الأخرى التي فشلت في انقاذ بلدانها من الانهيار، وتأكد للجميع أن مصر لن تسقط طالما أن جيشها قوي متماسك قادر على الحفاظ على أمن الوطن، ولن تسقط طالما أدرك المصريون حجم التهديدات التي تحاك ضدهم لتدمير جيشهم الذي ظل من أقوى جيوش المنطقة رغم حروبه المستمرة منذ سنوات ضد الإرهاب.. ولن تسقط مصر كما يريد لها الأعداء وبعض القوى الإقليمية والدولية من أن تكون دولة بلا جيش قوي في إطار الشرق الأوسط الجديد الذي يجري الإعداد له ويتطلب عدم وجود جيوش قوية في المنطقة .. فالقوى العالمية لا تريد جيوشاً قوية بالمنطقة ولكن العكس فتلك القوى تريد دولاً بلا جيوش.. وبالتالي لن يرى هذا الشرق الأوسط الجديد النور إذا استمرت الدولة المصرية وجيشها قوية ومتماسكة.