خيرى منصور

 ما أعنيه بالعولمة فى هذا السياق ليس المعنى الشائع والمتداول لها تبعا لأطروحات نهاية التاريخ وصراع الحضارات ، بل المعنى الذى حدده ماكلوهان فى ستينيات القرن الماضى وهو ذو دلالة كونية إنسانية، وكانت مناسبته الصور التى تنشر عن ضحايا الحرب الفيتنامية والتى اجتذبت الرأى العام وتحالفت مع ضحايا الحرب، واذا كان الإرهاب الذى يحاول البعض التلاعب بإطلاق اسماء اخرى غير دقيقة عليه قد تعولم وعبر القارات والجنسيات فإن الحرب عليه يجب ألا تبقى موضعية وفى بؤر متباعدة جغرافيا، لأنه اصبح الآن كالأوانى المستطرقة ، وما ان ينحسر فى مكان حتى يحاول التمدد فى مكان آخر من خلال خاصرة رخوة او مكان يعانى من فراغ أمنى .

وقدر تعلق هذا بالعملية الوحشية الاخيرة فى شمال سيناء فإن ما بلغه الإرهاب من اقصى الانتهاكات إنسانيا ودينياة إضافة إلى تحليل المحرم وتدنيس المقدس، فإن الحرب عليه تتطلب ما هو ابعد من تطوير مضاداته وأساليب الرد على تقنياته التى تحاول الإفادة من منجزات التكنولوجيا، ولأن بنك أهداف الإرهاب شمل المعابد ودور العلم والصحف ومراكز الأبحاث وأطلال الحضارات والمتاحف، فإن الحرب عليه يجب ان تشمل كل الأطراف التى تزعم بأنها حارسة للإرث الإنسانى ضد موجات التوحش التى تسعى الى إعادة المجتمعات المتمدنة الى ما قبل الدولة وإعادة البشرية إلى ما قبل القانون والشرائع والتاريخ !

وإذا اعتبر البعض العملية الأخيرة فى شمال سيناء والتى كان ضحيتها اكثر من ثلاثمائة من الأبرياء الذين فاجأهم القتلة وهم فى جلال السجود تحولا نوعيا فى منهج الإرهابيين فذلك لأن عدد الضحايا كان غير مسبوق، لكن التنفيذ وادواته بدءا من التفجير فى باحة المسجد وعند مداخله حتى إطلاق الرصاص بغزارة على صفوف المصلين هو أسلوب كلاسيكى فى الإرهاب كما عرف العالم عينات منه فى العشرية السوداء فى الجزائر ومن ثم فى أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها !

وقد يتصور البعض ان هذا التوغل فى التوحش وتغييب كل الكوابح الدينية والإنسانية هو علامة على فائض القوة لدى الإرهاب، والحقيقة هى عكس ذلك تماما، فهو حين يجازف بآخر أوراقه يكون كمن بدأ يشعر بالاحتضار وان نهايته وشيكة، ولكى ندرأ الالتباس بين فائض القوة وفائض العجز واليأس علينا ان نتذكر الخطاب الإعلامى للجماعات الارهابية حين كانت فى ربيعها وترفع شعارات تحاول من خلالها اجتذاب الشباب وتلفق ذرائع دينية لما تقترفه من جرائم، لكنها الآن لم تعد كذلك، ولا وقت لديها كى تعبّد الطريق التى تمر بها، لهذا فهى باتت بلا استراتيجية تنظم حملاتها وتعمل بما تيسر لها من الوقت والظروف المكانية .

لكن العملية الأخيرة فى شمال سيناء وضعت حدا نهائيا للحياد، فكل صمت عنها هو تواطؤ ان لم يكن مشاركة ، وما تحتاجه الدولة المصرية التى تدفع بأثر رجعى ثمن بقائها وتماسكها ليس برقيات التعازى او التعاطف اللفظي، فالامر جلل بكل المقاييس ، وما تم استهدافه فى كنائس مصر ومساجدها وسائر مؤسسات الدولة هو بمثابة اختبار أخلاقى وسياسى للعالم كله، وحين تقول مصر إنها تنوب عن العالم والإقليم فى محاربة الإرهاب فذلك ليس على سبيل الاستعطاف او استدعاء ما تبقى من احتياطى أخلاقى وإنسانى بل لأنها بالفعل تقوم بذلك، ويراد لبوصلتها أن تنحرف عن مشاريع البناء والتنمية وإعادة العافية إلى مفاصل الدولة التى تعرضت لوعكة لم تدم طويلا ! وللإعلام خصوصا العربى دور فى تكريس مفاهيم كانت حتى وقت قريب عائمة وعابرة، فهو مطالب ليس فقط بتجديد خطابه بل بنقده ايضا، وبأن يسمى الظواهر بأسمائها دون اللجوء الى المترادفات التى تضاعف من الالتباس وتربك الرأى العام . وما قاله العرب القدماء عن بلوغ السيل الزبي، اصبح الآن بسبب التطرف والعمى الايديولوجى والانكفاء شيئا آخر تماما ، فالسيل من دم وليس من ماء وهو لم يبلغ الزبى فقط او المرتفعات بل تجاوزها الى كل بيت ومدرسة ومسجد وكنيسة! واذا كانت المقاربات الامنية ذات اولوية فى الميدان، فإن ذلك لا يعنى حذف المقاربات الاخرى سواء كانت تربوية او دينية او ثقافية، فالإرهاب رغم شيطانيته ليس نبتا شيطانيا، له حاضنات ومفاهيم انتجته، ولا بد من البحث عن جذوره كى لا تكون المعالجة سطحية، وهذه الجذور ليست غائرة فى التراب ، انها مرئية بالعين المجردة، وهى ما يتم تداوله من خرافات تحت عناوين فقهية، او من ابتداع مُتخصصين فى إفراغ الدين من جوهره وتحميله آثاما وبدعا تُشرعن القتل والتدمير والاستباحة .

وعلينا ان نعترف بأن الاعلام العربى وإلى حد ما بعض الإعلام العالمى لايزال مُترددا فى خطابه، وهناك فضائيات تستخدم صفات كالتشدد والتطرف بدلا من تسمية الإرهاب باسمه الصريح، وهناك ايضا من يطلقون عبارات من طراز جماعات مسلحة، وهذا ليس من شأنه ان يخلط حابل الإرهاب بنابل مضاداته، فالسلاح وحده لا يكفى لتصنيف جماعات تستخدمه ضد الإنسانية وكل منجزات الحضارة على امتداد خطوط الطول والعرض لهذا الكوكب . وحين نقول إن ما يمارسه الإرهابيون الآن ليس تعبيرا عن فائض قوة، بل عن فائض عجز، فليس معنى ذلك الارتكان الى هذه القاعدة ، فالعجز كالاحتضار قد تطول مدّته ومن خلاله يقترف الإرهابيون جرائم اكثر بشاعة ووحشية ، لأنهم يدركون ان المستقبل ليس حليفا لهم وان الأجيال التى ذبحوا آباءها ودمروا بيوتها واغتصبوا نساءها ودنسوا مقدساتها هى بالضرورة الحتمية عدوهم الراديكالى الذى لا يُصالح، والتصعيد العدوانى غالبا ما يكون تعبيرا عن فشل فى الخطاب الثقافي، فالعالم الآن بلغ رشده ، ولم تعد شباك الإرهاب المهترئة قادرة على اصطياد المزيد ! اخيرا، مهما بلغ الثمن الذى تدفعه دولة عريقة من اجل بقائها وتماسكها يبقى اقل بأضعاف من الثمن المطلوب منها وهو التفكك والملشنة والتطييف، لأن اسبوعا واحدا من حرب اهلية فى غياب الدولة قد يكون ضحاياه بعشرات الآلاف ، وهذه ليست مفاضلة بين أرقام الضحايا بل هى الحقيقة ، ويعرفها من لدغوا من هذا الجُحر وتلقحوا ضد تكرار الانتحار الوطنى !!