خالد الدخيل

 إقدام الحوثيين يوم الجمعة الماضي على خيار المواجهة العسكرية مع القوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح في صنعاء ليس مفاجئاً! ما كان يجمع بين هذين الطرفين في الصراع الدائر في اليمن منذ 2013 ليس تحالفاً.

ما كان يمكن أن يكون كذلك وخلفيته حروب ستة بين علي صالح، عندما كان رئيساً للجمهورية قبل ثورة شباط (فبراير) 2011، وبين الحوثيين. دشنت هذه الحروب الستة الحوثيين بمثابة جماعة مسلحة في المعادلة السياسية اليمنية. وللرئيس صالح بخياراته السياسية حينها الدور الأهم في فرض هذا التطور. لم يدرك كما يبدو خطورة تحول الحوثيين إلى جماعة مسلحة، وأن وراء هذا التحول هدفاً بعيداً للسيطرة على الدولة. كان مقتنعاً بنجاعة ما كان يسميه هو بـ«الرقص مع الثعابين»، في لعبة سياسية مفتوحة ومحفوفة بالمخاطرات.

صدام الحوثيين مع صالح وحلفائه مخاطرة سياسية غبية قد ترقى إلى حد الانتحار السياسي. فهو، ومعه المؤتمر الشعبي العام، الطرف الوحيد المتبقي لهم الذي وقف إلى جانبهم في الحرب. القبائل بوزنها الكبير اختارت بغالبيتها عدم الاصطفاف في الحرب. وهذا موقف نابع، كما يبدو، من توجس بأخطار الخيار السياسي النهائي للحوثيين، وهو القضاء على الجمهورية، واستعادة الإمامة الزيدية، لكن بالتحالف حصرياً مع إيران، بالتالي إخضاع اليمن لهيمنة إمامية شيعية تقوم على ولاية الفقيه، وهو ما لم يحصل من قبل في تاريخ اليمن، الذي حكمه أئمة الزيدية أكثر من ألف عام، حتى ما يعرف بثورة أيلول (سبتمبر) 1962.

مأزق الحوثيين في مثل هذه الحال مضاعف. فهم من ناحية اصطدموا مع غالبية الشعب اليمني، الذي رفض الإمامة الزيدية أصلاً، فضلاً عن القبول بإمامة ولاية فقيه إيراني ليست عربية، وأكثر مذهبية وانغلاقاً، ولا يتجاوز هدفها توظيف اليمن بمثابة ورقة سياسية لطموحاتها في المنطقة. إلى جانب خسارتهم القبائل، خسروا كل القوى السياسية اليمنية. ثم اختاروا بغباء باذخ معاداة السعودية والاصطدام معها، وهي أكبر دولة في الجزيرة العربية والخليج، ومجاورة لليمن. لم تحاول أبداً فرض خياراتها عليه، فضلاً عن أنها مصدر اقتصادي أثبت أنه مفيد لليمن. ثم إن السعودية لم تعترض يوماً على حكم الإمامة الزيدية لليمن. ولم تحاول، من ناحية أخرى، فرض بقاء هذا الحكم بعد ثورة سبتمبر 1962، كما يشهد بذلك السياسي اليمني الشهير ووزير خارجية اليمن السابق محسن العيني، والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، في مذكراتهما.

لماذا في مثل هذه الحال الدقيقة إذاً اختار الحوثيون الاصطدام المسلح مع علي صالح وأتباعه، وهو لم يعادِهم، بل تعاون معهم في ميادين القتال؟ سيقال، وهو صحيح، إن الحوثيين يدركون أن صالحاً ليس معهم، ولا يحارب من أجلهم. هو يحارب أملاً بإنضاج الظروف والمعطيات للانقلاب عليهم، وعلى من يعتبر أنهم انقلبوا عليه في ثورة فبراير 2011. وسيقال، وهو صحيح أيضاً، إن علي صالح ومعه المؤتمر، كما بقية الشعب اليمني، جمهوريون في العمق. يرفضون في شكل نهائي هدف الحوثيين إعادة الإمامة من خلال التحالف مع إيران الجعفرية.

السؤال المطروح هنا مشروع من حيث أنه يحتكم إلى المنطق السياسي. لكن الواقع السياسي للحوثيين يجعل منه سؤالاً ليست له إلا إجابة واحدة. فهذه الجماعة تفتقر إلى الخبرة السياسية، وبخاصة مع اللعبة السياسية في اليمن. وهذا واضح من أنهم اصطدموا مع كل الأطراف المحلية والخارجية. ليس في جعبة هذه الجماعة من خبرات غير القتال في ميادين الحروب، ومن منطلقات دينية منغلقة. يتعاملون مع الواقع السياسي لليمن والجزيرة العربية من منطلق أمانيّ مذهبية تتصادم مع هذا الواقع بأبعاده الشعبية والتاريخية، وليس مع قياداته السياسية فحسب. لم يأخذوا في الاعتبار أن الخيار الذي يحلمون به لم يحدث من قبل في تاريخ اليمن. وأنهم بذلك يصطدمون مع تاريخ اليمن الاستقلالي ومع وجدان الشعب اليمني. انقاد الحوثيون، بسذاجتهم السياسية وبأحلام مذهبية مشوبة بغطرسة عسكرية، لوهم أن المجال بات مفتوحاً أمامهم، بعد تمدد النفوذ الإيراني في العراق وسورية ولبنان، لإعادة تجربة حزب الله اللبناني في جنوب الجزيرة العربية. أوهمتهم إيران، ووكيلها حسن نصرالله، أن الفرصة باتت متاحة لهم، وأنهم سيحظون بكل الدعم الذي يحتاجون إليه.

والحقيقة أن إيران لا تستطيع أن تذهب بعيداً في دعمها للحوثيين، وبخاصة في هذه المرحلة. أولوياتها ليست في اليمن. بل في العراق أولاً، وفي سورية ثانياً. لها حلفاء بوزن كبير في كليهما. مع ذلك، وعلى رغم ما حققته من نفوذ في هذين البلدين، فإنه نفوذ لم يستتب بعد، وينتظر حسم مآلاته النهائية. أضف إلى ذلك أن اليمن لا يعاني من الطائفية كما هي حال العراق ولبنان في شكل خاص، وبما يسمح باختراقه مذهبياً. بالتالي لا ترى أن من مصلحتها في هذه المرحلة أن تنقل ثقل دعمها إلى اليمن حيث حليفها الحوثي لا يزال معزولاً، ولا يتمتع بقاعدة شعبية، ويواجه رفضاً حاسماً من جوار اليمن. يختلف الأخير أيضاً عن العراق وسورية في ناحية مهمة؛ فالعراق مجاور لإيران مباشرة، ومجاور بدوره لسورية. والأخيرة مجاورة للبنان. وفي كل هذه البلدان الثلاثة حلفاء فاعلون لإيران. أما الحوثيون فهم يعانون من عزلة محلية وإقليمية. الأمر الذي يفرض أن يكون الاستثمار فيهم له حدود يصعب تجاوزها. لهذا وغيره من الأسباب تتعامل إيران مع الحوثيين في شكل انتهازي بمثابة ورقة ضغط على السعودية. وهي حتى الآن ورقة ضعيفة، ولا يبدو أن لها مستقبلاً.

بمثل هذه المواصفات لا يمكن لإيران أن تنجح في محاولاتها اختراق اليمن والسيطرة عليه. إلى جانب ضعف الحوثيين وعزلتهم، فإن اليمن، وتحديداً الجزء الشمالي منه لم يخضع لسلطة خارجية. تركيبته الاجتماعية وخريطته الجغرافية لا تسمح بذلك. ثم إن إيران آخر دولة يمكنها السيطرة على هذا البلد الذي يشكل مع بقية الجزيرة العربية المنبع الأول لفكرة العروبة واللغة العربية والجنس العربي. تداخل العروبة والإسلام بعد ذلك في ثقافته وتركيبته الاجتماعية والسياسية، ما عزز نزعته الاستقلالية. حاجز آخر أمام الاختراق الإيراني يتمثل بالقبيلة بصفتها مكوناً رئيساً ومهيمناً على بنية المجتمع اليمني، وليس الطائفية.

انطلاقاً من كل ذلك فإنه ليست هناك إلا إجابة واحدة على السؤال السابق، وهو أن الصدام بين صالح والحوثيين كان ينتظر وقته ولحظته. ويبدو أنه وصل إلى هذه النقطة. بيان المؤتمر الشعبي العام، الذي صدر أمس، وتصريحات علي صالح بعد ذلك، تقول إن الطرفين باتا على مشارف الانفصال النهائي، وأن الصدام بينهما مرشح للتصاعد. واللافت في هذا الســـياق عودة الرئيس السابق إلى تكرار مد يده إلى دول التحالف، ومطالبته بفتح صفحة جديدة «معهم بحكم الجوار، وسنتعامل معهم في شكل إيجابي». وختم كلمته بالقول مناشداً الجميع: «يكفي ما حصل في اليمن». وهذه مبادرة لا ينبغي تجاهلها كما حصل من قبل. صحيح أن عناصر الثقة ضعيفة جداً بين الطرفين، بعد تجارب كثيرة مع صالح منذ عقود. لكن هذه لحظة مختلفة بظروفها ومعــطياتها، وما يمكن أن يترتب عليها من مكاسب أو خسائر على كل الأطراف. هناك أيضاً نقطة يجب التأمل فيها، وهي أن صالحاً والمؤتمر الشعبي لم ينجرفوا في ذروة الخلاف والصراع إلى فتح قناة مع إيران. وهذا ليس بالضرورة مراعاة فحسب للتحالف العربي، وإنما بما يعبر عن رفض للخيار الإيراني، وتمشياً مع خيارات الشعب اليمني. وهذا يحسب للرجل ولقيادات وكوادر المؤتمر الشعبي.

سيبقى طبعاً موقف الحكومة الشرعية من صالح، ومن خيار فتح التحالف صفحة جديدة معه. لكنه موقف لا ينبغي أن يتجمد عند نقطة أو مرحلة بعينها. البيان الذي أصدره التحالف أمس يشير في هذا الاتجاه. إذ خاطب البيان الشعب اليمني وأبناء المؤتمر الشعبي العام (إشارة تشمل علي صالح)، مثمناً «استعادتهم المبادرة، وانحيازهم إلى شعبهم اليمني وانتفاضته المباركة» بما يحقق «عودة يمن الحكمة إلى محيطه الطبيعي العربي الخالص». مصلحة اليمن، ومصلحة دول التحالف تفرض تضييق خناق العزلة على الحوثيين، بما يؤدي إلى وقف الحرب لمصلحة الجميع. بيان التحالف يقول، وإن بصيغة غير مباشرة، إن موقفه من علي صالح لم يعد كما كان عليه. السؤال الآن: ما هي الخطوة المقبلة بين الطرفين؟