غسان الإمام

 النظام الدولي جملة معاهدات واتفاقيات عُقدت منذ عصر التنوير في القرون الثلاثة الأخيرة. واعتمدت أساساً للتعامل بين الدول، لإرساء السلام أو شن الحرب.

يقول ونستون تشرشل: «التاريخ سيكون مجاملاً لي، لأني أعتزم كتابته». ويقصد أن النظام الدولي سيكون مجاملاً للغرب، الذي صنعه. وفرضه على العالم. وما الفوضى الدولية الراهنة إلا تعبير عن تمرد دول صغيرة على هذا النظام الذي كان مجحفاً بحقوقها ومصالحها، بقدر ما كان مجاملاً لأصحابه.
هل النظام الدولي ضروري لهذا العالم المرهق بالقيود؟ الواقع أنه كان هناك دائماً نظام دولي منذ أن عُرف التاريخ. ولعل المصريين القدماء كانوا أصحاب أول نظام دولي - إقليمي، تعاملوا به مع أقوام الشرق الأدنى المحيطة بمصر. وعاصره أو تلاه النظام المماثل الذي فرضته دول حوض الفرات ودجلة. وقوضت بموجبه دولتي إسرائيل. وسبت اليهود، بذريعة أنهم ألحقوا الأذى بسلام المنطقة.
ثم فرضت الإمبراطورية الفارسية نظامها الدولي. فأنهت سبي اليهود. وساعدتهم في إعادة بناء هيكلهم. وأعادتهم إلى حوض نهر الأردن. لكن النظام الذي فرضته الإمبراطورية الرومانية ما لبث أن هدم الهيكل مرة أخرى.
التعايش السلمي بين إمبراطورية شارلمان الأوروبية والإمبراطورية العباسية المسلمة، انتهى بشن الحروب الصليبية التي روّعت مصر والمشرق العربي. ثم انحسرت، لتحل محلها الإمبراطورية العثمانية ونظامها الدولي الذي طرق أبواب النمسا وروما. وفرض ثقافتها المتخلفة على العرب أربعة قرون.
عادت أوروبا بنظام عالمي جديد مشبع بثقافة الاستشراق، لاستعمار المشرق العربي. هذه الثقافة أَعْلَتْ من شأن الأقليات الدينية. والطائفية. والعرقية. وجرى تقويض مملكة فيصل السورية. وتقسيمها إلى ثلاث دويلات (سنيّة). وما لبثت دولة الانتداب أن عادت إلى توحيدها، بفضل نضال السوريين الوطني والقومي. لكنها أبقت على دولتي العلويين والدروز إلى نهاية ثلاثينات القرن العشرين.
مع خروج فرنسا من الحرب العالمية الثانية بجروح وانكسارات، اضطرت تحت ضغط بريطانيا إلى منح سوريا ولبنان الاستقلال التام. ثم تمكن جمال عبد الناصر من إجلاء الإنجليز من مصر. لكن اعتبر خارجاً على النظام العالمي، بتأميمه شركة قناة السويس الأنغلو - فرنسية. هنا تدخلت أميركا آيزنهاور، لإحباط المؤامرة الثلاثية (بريطانيا. فرنسا. إسرائيل) للقضاء على نظامه. وإجبار إسرائيل على الانسحاب من القناة وسيناء.
أستطيع الحديث عن نظام عالمي جديد من صنع أميركا، بعد انتصارها على أوروبا في الحربين العالميتين. فقد دعا الرئيس وودرو ولسون بعد الحرب العالمية الأولى، أوروبا إلى تصفية نظامها العالمي الاستعماري. غير أن أميركا لم تستطع فرض نظامها، إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
أما الاتفاق الاستراتيجي بين أميركا والسعودية فقد تعرض في السنوات الأخيرة إلى انكسارات. والأسباب كثيرة، منها تباين المصالح النفطية وانحياز أميركا لإسرائيل. وتقاعس أميركا أوباما عن إنقاذ سوريا من التدخل الإيراني، الأمر الذي سمح لروسيا بفرض نظامها العالمي في المشرق العربي الذي ساعد إيران على إنقاذ نظام بشار من الانهيار.
نجحت إيران الخميني بغسل دماغ عرب المشرق بثقافة المقاومة والممانعة المتخلفة، زاعمة أنها أنشأت «حزب الله» اللبناني لمواجهة إسرائيل. فإذا بها تورطه في ارتكاب مجازرها الدموية في سوريا.
أستطيع القول أيضاً إن النظام العالمي (الأوروبي - الأميركي) تطور إنسانياً بعد تصفية الاستعمار، ليعترف بحقوق الإنسان، بما فيها حق تقرير المصير. وصولاً إلى الاعتراف بحق العرب في الاستقلال. ورفض الاعتراف بحقهم في الوحدة القومية. فكان العرب الأمة الكبيرة الوحيدة في العالم التي لم تتمكن من تحقيق وحدتها. ومن أسباب هذا العجز ترسخ الخصوصيات المحلية في المجتمعات العربية المنفصلة عن بعضها بحواجز السيادة والحدود. ووصلت الخصوصية المحلية السورية إلى ضرب وإسقاط الوحدة الثنائية مع مصر!

النظام العالمي (الغربي) لا يتحدث عن أمة عربية ووطن عربي. إنما عن «شرق أوسط» و«شمال أفريقيا». ويجاريه الإعلام، بترداد ببغاوي للتوصيفات الجغرافية، متجاهلاً التوصيفات العربية. وهكذا أيضاً وأيضاً يخضع العرب لتناقضات النظام العالمي، في موافقته في السبعينات على أسلمة النظام العربي والمجتمعات العربية، متجاوزاً الوحدة القومية.
مع مولد الألفية الميلادية الثالثة، تعرض النظام الدولي إلى انشقاق خطير. فالاتحاد الأوروبي نشأ وفق المعايير الديمقراطية. والثقافية التعددية غير الرافضة للمهاجرين، بحيث استوعبت ألمانيا أكثر من مليون لاجئ سوري... هذا الاتحاد يتعرض من داخله، إلى تمرد الشعبوية في أوروبا الشرقية التي تستفيد من تمويل الاتحاد لها. وترفض ثقافته الإنسانية، وذلك بتأييد مذهل من شعبوية نظام ترمب الأميركي الذي يدعو إلى التقليل من استقبال المهاجرين. والعودة إلى الإيمان بالوطن أولاً.
وعلى الرغم من أزمة الاتحاد الأوروبي، فقد تمكنت أميركا أوباما وترمب من القضاء على كيان «الدويلة الداعشية». يبقى أن يقضي النظام الدولي على ردات الفعل «الداعشية» و«القاعدية» ضد أوروبا. وأميركا. والعرب. وكان الهجوم الدموي على مسجد الجماعة المتصوفة المتزهدة في سيناء بمثابة نقل الجماعات الإرهابية (الداعشية والقاعدية) للحرب على النظام العربي، إلى حرب على المجتمع العربي.
النظام العالمي لا يتعرض إلى التصدع فحسب، بسبب الصراع بين أنظمة الليبرالية الديمقراطية، بقيادة ألمانيا وفرنسا، مع الأنظمة الشعبوية في أوروبا الشرقية، إنما يتعرض أيضاً إلى مواجهة خطيرة مع دولة صغيرة اسمها كوريا الشمالية. الفتى كيم جونغ أون يتوجه بـ«ولدنته» النووية إلى تحدي واستفزاز ترمب. والنظام العالمي مباشرة، واضعاً أميركا وأوروبا أمام الخيار الصعب بين إدخال كوريا الشمالية نادي الكبار النووي. أو الرد على الاستفزاز بمحوها من خريطة الكرة الأرضية.
هل تشجع الصين وروسيا الغلام كيم على تحدي ترمب والنظام العالمي؟ إذا كانت هاتان الدولتان تفعلان ذلك، فهما تلعبان بالنار النووية. فقد تضطران إلى الدفاع عن كيم، إذا استغنى ترمب عن مدينة بحجم شيكاغو. أو هوليوود. في مقابل تدمير كوريا الشمالية. أين العرب في هذه اللعبة الخطيرة؟ لا هم في العير. ولا هم في النفير. هم أشبه بالأيتام على مائدة اللئام.