أحمد يوسف أحمد

تميز المشهد العربى فى مطلع هذا القرن بالتراجع والعجز عن تحقيق أهدافه الأساسية كما يبدو واضحاً من مآل محاولات استعادة الحد الأدنى المقبول من الحقوق الفلسطينية ووصلت الأمور إلى هذا الحد بعد أن اجتاز النظام العربى أزمتين طاحنتين أولاهما الانقسام المصرى - العربى بعد اتفاق السلام المصرى - الإسرائيلى والثانية عقب الغزو العراقى للكويت، وفى 2003 وقع الغزو الأمريكى للعراق الذى كان علامة فارقة فى تفاقم التردى العربى بعد أن أدت سياسات الاحتلال الأمريكى إلى تفكيك الدولة والمجتمع فى العراق ووظفت الطائفية لخدمة أغراضها فلم يقتصر أثرها على العراق وحده وإنما امتد إلى بلدان غيره مهدداً وحدتها الوطنية، ثم أكملت تداعيات «الربيع العربى» ما بدأه الاحتلال الأمريكى للعراق فاستعرت الصراعات فى أكثر من بلد عربى وتهدد كيان الدولة الوطنية فيها خاصة وقد تصاعد الإرهاب على نحو غير مسبوق كما تبدى من نجاحه للمرة الأولى فى تأسيس كيان إقليمى تمثل فى دولة «داعش» وترتبت على هذا كله درجة غير مسبوقة منذ استقلال البلدان العربية من التدخل الإقليمى والعالمى فى شئونها الأمر الذى وضع القرارات المتعلقة بمستقبل هذه البلدان فى أيدٍ غير عربية.

وفى الآونة الأخيرة وقع عدد من التطورات فى أكثر من بلد عربى بدا وكأنها تشير إلى تغيرات إيجابية، ويمكن أن نشير فى هذا الصدد إلى هزيمة «داعش» فى العراق وتجاوزه السلس أزمة انفصال كردستان، وفرض النظام السورى سيطرته على معظم الأراضى السورية وهو مؤشر على تعافى الدولة السورية ولو نسبياً بغض النظر عن المتطلبات الواجبة لإصلاح سياسى جذرى، ونجحت مصر فى تحقيق اتفاق للمصالحة الوطنية الفلسطينية أو بالأحرى البدء فى وضع اتفاق المصالحة الذى سبق للمخابرات المصرية أن أنجزته فى 2011 موضع التطبيق الفعلى، ويمكن أن نضيف إلى هذا: التكهنات الخاصة بانعقاد القمة الخليجية فى الكويت واحتمال التوصل لتسوية ما للأزمة بين النظام القطرى وكل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وأخيراً وليس آخراً التطورات المفاجئة فى اليمن ليس من حيث طبيعتها فمؤشرات الشقاق بين صالح والحوثيين طرفى الانقلاب فى اليمن ليست بالجديدة ولكن من حيث حدتها حيث بدت إعلاناً صريحاً للحرب من جانب صالح على الحوثيين، وقد نظر البعض وربما الكثيرون إلى التطورات السابقة باعتبارها مؤشراً على تغيرات إيجابية فى المشهد العربى تُنبئ بتحولات إلى أوضاع أفضل من تلك التى جثمت على صدورنا لسنوات عدة.

ومن المؤكد أن ثمة اتجاهات إيجابية فيما حدث ويحدث لكن من المهم أيضاً إمعان النظر فى التطورات السابقة كى نتيقن من أنها بدايات تعوق اكتمالها صعوبات حقيقية بل وهائلة فى بعض الأحيان، وليس هذا من قبيل بث الإحباط واليأس وإنما من أجل التبصر بما يتعين علينا أن نفعله لاغتنام فرصة هذه التطورات كى يتواصل فعلها الإيجابى خاصة أن مصر باتت بلا شك تلعب دوراً إيجابياً مهماً فى مجريات الأحداث فى الوطن العربى، وإذا بدأنا بالعراق فإن عملية بناء الدولة الوطنية على أنقاض الطائفية مازالت شديدة الصعوبة خاصة وقد اكتسبت بعداً «مؤسسياً» ناهيك بالتوصل إلى حلول مستقرة للمسألة الكردية، وفى سوريا صحيح أن النظام قد بسط سيطرته على معظم أرجائها لكنه فعل ذلك بدعم قوة كبرى كروسيا وقوة إقليمية كإيران ومن خلفها الميليشيات التابعة لها، وكلما اقتربت التسوية سوف يكون من الضرورى ليس الاستجابة لمطالب القوى السياسية المعارضة فحسب وإنما لمتطلبات دفع الثمن للقوى الدولية التى دعمت النظام وهو ما يتعارض بالتأكيد مع مصالح القوى التى ناصبته العداء بما يشكل معضلة شديدة التعقيد، وفى المصالحة الفلسطينية مازالت الخلافات حول التطبيق فيما يتعلق بإعادة ترتيب مؤسسات السلطة قائمة فما بالنا بالمشكلات الكبرى المستعصية كتحديد مصير سلاح «حماس» التى لا يمكن أن تستغنى عنه لأنه سند بقائها فضلاً عن كونه ورقة مهمة فى أى مفاوضات قائمة نحو تسوية بمعنى أن التخلى عنه لابد أن تقابله تنازلات حقيقية من إسرائيل، كما أن «حماس» حرصت بعد بدء تنفيذ المصالحة على إرسال رسائل مؤداها أن علاقتها بإيران وحزب الله لاتزال وطيدة وهذا يعقد الأمور كثيرا، وفى القمة الخليجية القادمة تبقى الأمور غامضة، ذلك أن سيناريوهات تسوية الأزمة ليست بهذه البساطة، فقد نجمت عن سياسات تقع فى قلب شرعية الدور الذى رسمه النظام القطرى لنفسه، كما أن الاتهامات التى وجهتها الدول المقاطعة له ليست بالهينة، وقد عانينا نحن هنا فى مصر الكثير من سياسات ذلك النظام وتجرئه على مصر ونظامها، ولذلك فإن التوصل إلى تسوية ليس سهلاً، وحتى إن تم فلا يمكن أن يعنى ببساطة عودة الأمور إلى سابق عهدها فى مجلس التعاون الخليجى بسبب التصعيد السياسى والإعلامى الذى اكتنف الأزمة.

وأخيراً وليس آخراً فإن التطورات الأخيرة فى اليمن هى خير دليل على منطق هذه المقالة فبمجرد تمرد صالح على الحوثيين الذين تحالف معهم فى انقلابهم سرعان ما راجت تحليلات تذهب إلى أن كل شىء قد انتهى بالنسبة لهم رغم أن المسألة أعقد من ذلك بكثير فلهم قاعدة قوتهم الاجتماعية وخبرتهم القتالية ودعمهم الإقليمى وقد قتلوه على أى حال وإن كان هذا لا يعنى أن تمرده ذهب سدىً، فلا شك أنه أحدث شرخاً قابلاً للتوسيع فى جبهة الانقلاب لكن الأهم من ذلك أن الصراع فى اليمن مازال ينطوى على قدر كبير من التعقيد، وكما سبقت الإشارة فإن هذا التحليل ينبغى ألا يكون مبعثاً للإحباط واليأس وإنما سبب لإعمال الفكر وإتقان العمل من أجل الاستغلال الأمثل للفرص التى يتيحها الحراك الراهن فى المشهد العربى.