سليم نصار

 كان اليمن بشقيه الشمالي والجنوبي مصدر أحداث دموية لم تعرف الاستقرار والهدوء منذ إعلان استقلال الجنوب في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967. وقد تحقق هذا الأمر إثر انتفاضة شعبية اندلعت في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1963 ضد الاحتلال البريطاني الذي استمر لأكثر من 120 سنة. وتردد في حينه أن الانقلاب العسكري الذي حدث في اليمن الشمالي مساء 26 أيلول (سبتمبر) 1962، جاء بتشجيع من الاتحاد السوفياتي الذي حرّض أهل الجنوب على الانتفاضة. وقد ساعد على تنفيذه الرئيس جمال عبدالناصر الذي توقع سقوط اليمن تحت سيطرته، الأمر الذي يسهل له تطويق السعودية وتخويف دول الخليج.

ويذكر مؤرخو تلك الحقبة أن الإمام محمد البدر كان متوجهاً نحو مقر إقامته في القصر عندما حاول ضابط يُدعى حسين السكري اغتياله من خلف لولا أن زناد البندقية تعطل. وكان السكري يشغل وظيفة نائب العقيد عبدالله السلال الذي اختاره الإمام قائداً لحرسه الخاص.

ويتذكر الإمام في مذكراته أن عينيه لم تغمضا طوال الليل، خصوصاً بعد انقطاع التيار الكهربائي. وأعقب ذلك إطلاق نار على القصر. ولما ردّ الحرس على المهاجمين قتل ضابط يُدعى عبدالغني، تبيّن لاحقاً أنه المدبر الأساسي للانقلاب بالتعاون مع سفارة مصر في صنعاء. وعلى الفور ظهر البديل العقيد عبدالله السلال، بينما هرب الإمام محمد البدر إلى الخارج. واعتُبِرَت تلك الحادثة بمثابة مدخل وسيع للتدخل العسكري المصري الذي جاء بناء على طلب السلال.

وفي رأي المراقبين الذين رافقوا تطورات ذلك النزاع، أن جمال عبدالناصر لم يكن يقدّر خطورة المضاعفات التي نتجت من تورطه في حرب استنزاف كان يصفها بـ «فيتنام مصرية» كونها تشبه ورطة القوات الأميركية في فيتنام.

وتشير المعلومات التي نشرتها الصحف بعد انتهاء تلك الحرب إلى أن القوات المصرية خسرت 26 ألف قتيل، بينما خسر اليمنيون أكثر من أربعين ألف جندي ومدني. ولكن الخسارة الكبيرة كانت على الجبهات العربية بحيث أن إسرائيل استغلت انشغال الجيش المصري في تضميد جراحه وإعادة تنظيم صفوفه لكي تضرب مصر والدول العربية في حرب 1967، وتحتل سيناء والجولان والقدس والضفة الغربية.

عقب انتهاء الحرب الأهلية اليمنية عام 1970، طغت فكرة الاندماج الوطني على كل أمر آخر. وركزت الحكومة نشاطها على تشجيع التيارات المطالبة بإلغاء التكتلات القبلية والطائفية والاستعاضة عنها بدعم الهوية الوطنية. والسبب هو ازدياد حدّة التنافس الطائفي القائم بين الشيعة الزيديين في الجزء الشمالي من الجمهورية العربية اليمنية والشافعيين السنّة في الجزء الجنوبي من البلاد.

وحاولت صنعاء امتصاص تلك الخلافات من طريق وحدة الشطرين، الشمال والجنوب. ولكن مساعيها باءت بالفشل. ولم تتحقق هذه الأمنية إلا في ربيع 1990 يوم أعلن الشريكان اليمنيان قيام الوحدة، وأصبح لكل من «حزب المؤتمر الشعبي» والحزب الاشتراكي» نصيب متوازن في السلطة، بحيث أصبح علي عبدالله صالح رئيساً وعلي سالم البيض نائباً له.

بعد إعلان الوحدة بثلاث سنوات تقريباً، حدثت توترات عسكرية رافقتها اغتيالات سياسية، الأمر الذي أدى إلى حرب معلنة بين الشطرين انتهت بانتصار قوات علي صالح وهرب سالم البيض إلى سطنة عُمان. وبعد تثبيت الوحدة في 7 تموز (يوليو) 1994، أصبح علي صالح رئيساً مطلق الصلاحية بعدما كان رئيساً لمجلس الرئاسة وعبد ربه منصور هادي نائبه.

يرى المراقبون أن نظام علي صالح تعرض عام 2004 لأخطر التجارب الأمنية وأكثرها حدّة. والسبب أن جماعة بدر الدين الحوثي قامت بانتفاضة مسلحة بتشجيع من إيران ودعمها. وأدى الخلاف إلى نشوب ست حروب أهلية، انتهت بتحالف الرئيس مع الحوثيين. وبسبب تمددهم الواسع في مختلف المحافظات وتهديدهم بالاستيلاء على العاصمة، انفجر الخلاف بين مسلحي «المؤتمر الشعبي» ومسلحي الحوثيين، الأمر الذي أدى إلى اغتياله.

ويدّعي بعض المحللين أن طهران هي التي أمرت بالتخلص من علي صالح بعدما تبين لها أنه يتهيأ للقيام باستدارة عاجلة قد تنتهي به للجوء إلى السعودية أو دولة الإمارات العربية المتحدة.

بقي السؤال المتعلق بمستقبل اليمن الشمالي، وما إذا كانت القبضة الحوثية قادرة على إحكام سيطرتها على كل أجزاء البلاد؟

الشهر الماضي أجاب علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني، على هذا السؤال ضمن خطبة وجهها إلى الدول الغربية، قال فيها: «إن إيران ستتواجد في كل مكان يتطلب حضورها لمواجهة الكفر والاستكبار من دون اكتراث لأي أحد مهما كان حجم التهديد».

والترجمة العملية لعبارة خامنئي تؤكد حضور إيران في كل معركة تهتم بخوضها في المنطقة وخارجها. وهذه القاعدة تسري على العراق وسورية ولبنان وفلسطين... واليمن أيضاً. وهي تستخدم وكلاءها المحليين من أجل تنفيذ هذه الغاية. تماماً مثلما تحرّض الحوثيين على القيام بهذا الدور.

ولكن، هل يستطيع نصف مليون حوثي التحكم بمصير 27 مليون يمني؟

يستدعي هذا السؤال مراجعة تاريخ هذه الجماعة. خصوصاً أن الحوثيين من اليمن الشمالي مقسمون بالتساوي بين طائفتين إسلاميتين: الزيدية، وهي فرع من الطائفة الشيعية، والشافعية، وهي فرع من الطائفة السنيّة. وبحسب التوزيع الجغرافي، فان الزيديين منتشرون في المنطقة الشمالية الجبلية، بينما ينتشر الشافعيون بغالبيتهم في جنوب البلاد.

ويؤكد المطلعون على أحوال الجزيرة العربية اختفاء حكم الإمامة الزيدية مع حصر وجودها في اليمن الشمالي. والمعروف أن أئمة هذه الطائفة يتحدرون من الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه). وهذا ما يفسر تقارب الحوثيين من إيران، كونهما ينتميان إلى الطائفة الشيعية.

في آخر إحصاء ثبت أن عدد الزيديين في اليمن يتجاوز العشرة ملايين نسمة، أي أنهم يشكلون ما نسبته ثلث عدد السكان (27 مليون نسمة). هذا في حال عدم إضافة مليوني يمني يعملون في دول الخليج العربي.

ومع دعوة أبناء علي عبدالله صالح إلى استئناف القتال تحت شعار «حزب المؤتمر الشعبي»، يسعى الحوثيون إلى احتلال كل البلاد. وربما يساعدهم على تنفيذ هذا المخطط الأزمة الاقتصادية الخانقة وتهاوي العملة المحلية بحيث تجاوز الدولار الواحد 450 ريالاً يمنياً في السوق السوداء، في حين بلغ السعر الرسمي المحدد في البنك المركزي 390 ريالاً للدولار.

إضافة إلى الأزمة الخانقة التي رفعت أسعار البنزين والغاز المنزلي، مع ظهور مؤشرات سلبية تنبئ بتفاقم أزمة الكهرباء والماء النظيفة. كل هذه الأعراض تدفع المواطن العادي إلى البحث عن لقمة عيشه. ومن المؤكد أن القيادة الحوثية ستستغل هذه الانهيارات لتزيد من توسعها وتسلطها.

في نهاية المطاف، وبعد مضاعفة الأزمة الخانقة في اليمن الشمالي، من المتوقع أن تزداد دعوات المطالبين باستقلال الجنوب اليمني وفصله نهائياً عن اليمن الشمالي.

بعض المشككين في نجاح هذه التجربة مرة ثانية يستندون في حذرهم إلى الصدامات المسلحة والتصفيات الجسدية التي وقعت عام 1986. يومها تعارك زعماء الحزب الاشتراكي الذي ترعاه موسكو، من دون الاهتمام بالعقيدة التي تجمعهم. وقد قُتِل في تلك الاشتباكات عبدالفتاح إسماعيل وعلي عنتر وعلي شايع هادي وآخرون، في حين هرب علي ناصر محمد وأنصاره إلى اليمن الشمالي. ثم تبيّن بعد فترة وجيزة أن سالم البيض وحيدر العطاس وسالم صالح محمد نجوا من الاغتيال.

استناداً إلى تلك الواقعة التي قال فيها أندريه غروميكو: «لقد حسبنا أن العقائدية ستتغلب على العشائرية والقبلية، ثم جاءت الأحداث لتثبت لنا خطأ الرهان على مقاومة العصبية».

والمؤسف أن سكان عدن لم يعد لديهم سوى خيار الانفصال والاستقلال، ما دام الحوثيون مصرّين على استئناف القتال ضد معارضيهم وما دامت إيران حريصة على تنفيذ تهديدات علي خامنئي!