حسن مدن

أقانيم ثلاثة هي: أبوبكر سالم، حسين المحضار وحضرموت، فلا يمكن الحديث عن الفنان الكبير أبو بكر سالم، صاحب أجمل وأقوى حنجرة غنائية في منطقة الخليج والجزيرة العربية كلها، على الإطلاق، الذي رحل عن الدنيا أمس الأول، دون الوقوف عند الشاعر الكبير حسين المحضار، الذي سبقه في الرحيل قبل سنوات، صاحب القصيدة الشعبية المكتنزة بالمعنى والدلالة والإيحاء، والمفعمة بالحكمة التي تكاد، في بعض حالاتها ترتقي إلى مستوى الأمثال الشعبية التي تحفظ لفرط ما فيها من تركيز وعمق.


ولا يمكن الحديث عن أبوبكر سالم دون الوقوف عند مدينته حضرموت، درة العمارة اليمنية التقليدية الفريدة من نوعها، هذا الثغر العربي المهم الذي لم ينل حقه من الاهتمام رغم الدور الكبير الذي لعبه في التاريخ العربي، حيث بلغ تجاره أبعد مقاصد العالم، وإليهم يعود فضل كبير في نشر الإسلام والثقافة العربية في جنوب وشرق آسيا، دون إراقة قطرة دم واحدة.
صحيح أن أبوبكر سالم غنى لشعراء آخرين مثل لطفي أمان ومحمد عبده غانم، وبعضهم من حضرموت ذاتها مثل حدّاد الكاف، بل إن هناك من يرى أن أبوبكر لم يشكل ثنائياً مع المحضار وحده، وإنما مع غيره من الشعراء، لكن يظل أن أكثر أغنياته انتشاراً وذيوعاً وشهرة، تلك التي انتقاها من كلمات حسين المحضار، وهو البارع في الانتقاء.
وصحيح أيضاً أن أبوبكر سالم عاش جزءاً من حياته، لعله الجزء الأكبر خارج حضرموت واليمن، لكنه ظلّ مشدوداً إلى بيئته الأولى، روحاً وغناء، وعليه، أكثر من غيره، يصح القول إن الفنان ابن بيئته، فقد تشرّب روحها، وحملها معه.
الباحث إبراهيم العشماوي نشر دراسة مهمة في «الأهرام العربي» تحت عنوان دال ومعبر هو «حضرموت منجم الغناء العربي»، لاحظ فيها، محقاً، أن الموسيقى الحضرمية واحدة من أشهر أنواع الموسيقى العربية، حيث تعتمد في مقاماتها على أسلوب فني تطور على مر الزمن، يستخدمها أكثر الملحنين والعازفين في الجزيرة العربية.
بيئة فنية خصبة مثل هذه، غنائياً وموسيقياً، كفيلة بأن تعطينا فناناً كبيراً مثل أبو بكر سالم وسواه من الفنانين المعروفين مثل كرامة مرسال وعبد الرب إدريس وغيرهما، ممن لهم صيت وبصمة في الغناء لا في منطقة الخليج والجزيرة العربية وحدها، وإنما في البلدان العربية الأخرى.
ومع أن تقاليد اليمن الموسيقية وإيقاعاته هي التي طبعت ألحان وأغاني أبوبكر سالم إلا أنها حققت صيتاً في المنطقة كلها، ولا يمكن لدارس التجربة الغنائية والموسيقية في مجتمعات الخليج إلا أن يلاحظ التأثير الكبير الذي تركته الأغنية اليمنية والمطربون اليمنيون فيها، بل إن كثيراً من مغني الخليج أعادوا غناء أغان كثيرة من التراث اليمني بلمساتهم الخاصة.
يرحل أبوبكر سالم جسداً، ويظل صوته، بكامل عذوبته وفخامته، حاضراً.