بكر عويضة

بعد أسبوع من غضب مبرر، واحتجاج مشروع، إزاء قرار للرئيس دونالد ترمب بشأن القدس، ثبت أنه غير مدروس النتائج بقدرٍ كاف، وتأكد لواشنطن ذاتها، قبل غيرها، أن الدفاع عنه تعذَّر حتى من قِبل حلفائها الأوروبيين، يجدر بالغاضبين التفكّر فيما بعد الغضب. بالطبع، أول المعنيين بالأمر هم الفلسطينيون، وعلى وجه التحديد قياداتهم التي تتحمل مسؤولية قضيتهم، والتي يُفتَرض أن تقدِّم منطق العقل على إرضاء عواطف جماهير غاضبة. تُرى، هل جرى التدبر فيما بعد موجات غضب إشعال النيران في العلم الأميركي؟ هل حصل التدبر بغرض استكشاف الخطى نحو المستقبل، أم أن الأمر سوف يبقى رهن ما يدور في الغرف المغلقة، بغض النظر عما يقتضيه الظرف من حكمة التصرف داخل الأرض، وإجادة الاستثمار السياسي على صعيد دولي؟


إنما، بقدر ما أن قيادات الفلسطينيين مُطالبة بالتفكير في متطلبات ما بعد موجات الغضب، جدير بإدارة الرئيس ترمب التأمل فيما نتج عن التعجل باتخاذ القرار بشأن القدس، ومن ثم بذل الجهد المناسب باتجاه إيجاد علاج ملائم لما ترتب من آثار سلبية على القرار. صحيح أن «السماء لم تقع على الأرض»، وفق قولٍ نُسب للسيدة نيكي هايلي، سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة، لكن يصح التساؤل أيضاً: هل من الضروري وقوع زلزال سياسي بذلك الحجم المُتخَيّل، كي تدرك واشنطن كم هو حسّاس حسم ملف القدس، وبالتالي لم يكُ من العبث أن كل رؤساء الولايات المتحدة، المتعاقبين على البيت الأبيض منذ نشوء إسرائيل، آثروا التريّث في اتخاذ موقف حاسم قبل التوصل إلى سلام شامل بين أطراف صراع لم تشهد الأرض أي مثيل لتعقيداته، على رغم ما وقع من حروب التهمت ملايين البشر.

ضمن هذا السياق، من غير الممكن غض النظر عن حجم الاعتراض العالمي، الذي قوبل به القرار الأميركي المُعلن نهار الأربعاء الماضي. عندما ترى مرجعيات دينية بحجم بابا الفاتيكان ومكانته، إضافة إلى زعامات عالمية ضمت عواصم العالم كافة، باختلاف توجهاتها وتباين أطيافها، تبادر بلا تردد إلى اتخاذ موقف معارض للقرار الأميركي، يصبح من الجائز استحضار مبدأ الرئيس ترمب: «أميركا أولاً»، وإلقاء التساؤل التالي: ماذا جنت الولايات المتحدة نفسها من تعجيل الاعتراف بالقدس «عاصمة إسرائيل» بدل انتظار التوصل لسلام شامل؟ واضح أن إدارة الرئيس ترمب لم تجنِ سوى ترحيب بنيامين نتنياهو، وغيره من ساسة تل أبيب. أما كان الأفضل للرئيس الأميركي أن يأخذ بعين الاعتبار نُصحَ كل من دعا إلى التفكير في تأثير هكذا قرار. بلى، لكن سيد البيت الأبيض أبى الاستماع لنصائح كثيرين داخل أميركا وخارجها، وعوض الوثوق بصدق قولهم، اختار المجازفة بصدقية سياسات واشنطن، خصوصاً في وقت تشتد فيه المواجهة مع بؤر التطرف، التي سارعت بدورها لتوظيف قراره لصالح مزاعمها.

يبقى من المفيد تذكّر مقولة نيكي هايلي، إن صح ما نُسب إليها، لجهة أن «السماء لم تقع على الأرض»، وهو قول يردده الفلسطينيون، وغيرهم من الشعوب في سياق الحياة اليومية للتخفيف من وقع خطأ ما. القصد هنا هو التذكير بحقيقة أنه ما اشتد هول الصِعاب أمام شعوب تتوق للحرية والاستقلال، إلا واشتدت الحاجة إلى تحكيم العقل، وليس الانجرار وراء إرضاء العواطف. المُتوارث من دروس التاريخ يوضح لكل من يسعى لوضوح الخُطى، أنه ما أفلح قوم لوّى عقلاؤهم الأعناق مستخفين بثِقل واجب تدبر واقع يومهم، فتواصل تدهور حال العشير من سيئ إلى أسوأ. وعندما يمسي القوم غير متعظين بما كسبت أيديهم من أخطاء أوصلت لخطايا، فالأرجح أن يصبحوا نادمين، يضرب بعضُهم كف بعضٍ، يتلاومون فيما بينهم، كلٌ يلومُ الكلَ، إلا نفسه. ما الفائدة، إذنْ، إذ يصبح الناس بعد زعيق ليل أمس مصدومين بواقع مرير، فما لاح في أفق المنتظرين ما زعق به الزاعقون، وما عاد ينفع ندمٌ على ما ضاع من أرض، وزمن، وحلم بالمستقبل الواعد. دعونا نأمل أن يفيق قادة التنظيمات الفلسطينية المتداولون في الغرف المغلقة، والمتبادلون اللوم فيما بينهم، على حقيقة أن شعبهم أولى بتقديم مصالحه على شعارات أو أجندات غيره. نعم، لكل غضب نابع من قلب فلسطيني ملتاع بآلام سنين فاقت السبعين. وكفى، لأي تلاعب بقضية الفلسطينيين وعذاباتهم.