محمد خلفان الصوافي

إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بشكل فردي، أن القدس عاصمة لإسرائيل، لا يعني فقط أنه يضرب بكل قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي عرض الحائط، ويعيد إلى أذهان العرب والمسلمين «وعد بلفور» الذي مر عليه قرن من الزمان، لكنه أيضاً يمنح كل الجماعات الإرهابية والمتطرفة وأصحاب الأيديولوجيات التخريبية في المنطقة مبررات عودتهم إلى الساحة، بعدما بدأت دول المنطقة تحقق انتصارات ضدهم، سواء في العراق أو سوريا. والأبعد من ذلك، أن هذا القرار يعطي المحور الإيراني فرصة «إنعاش» أذرعه السياسية من خلال المزايدة على قضية عربية وإسلامية عادلة، دون أن يكون المقصود حقيقة هو الحصول على نتائج سياسية أو استعادة الحقوق الفلسطينية، وما يُظهره قرار ترامب أنه غير مهتم بتهديد مصالح الولايات المتحدة في العالم.

ينبغي الملاحظة، أن انفراد ترامب بهذا القرار عن بقية دول العالم أنه ليس الاستثناء الوحيد منذ وصوله للسلطة، فهناك قرارات أخرى كانت الإدارات الأميركية السابقة قد التزمت بها، منها تهديده بالانسحاب من الاتفاقية النووية مع إيران رغم توقيعها مع عدد من الدول الأوروبية، وكذلك انسحابه من اتفاقية المناخ. ومن المؤكد أن هناك فرقاً في النتائج بين القرارات السابقة و«وعد ترامب» لإسرائيل، فالأخير يضع الاستقرار الدولي والمصالح الأميركية في المنطقة على المحك، كما يضع حلفاء واشنطن في موقف حرج، الأمر الذي يدعو إلى أهمية فهم الإدارة الأميركية الحالية لرسالة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة - أو بالأصح نصيحته - إلى وفد «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، أحد بيوت الخبرة الأميركية التي تقدم المشورة للبيت الأبيض، قبل يومين، حيث وصف صاحب السمو القرار بأنه «طوق نجاة» للإرهابيين، ونصح بأن تراجع إدارة الرئيس ترامب قرارها الخطر.

وأخطأ الرئيس ترامب في الحسابات السياسية بقراره هذا، لأنه لم يعبأ بمشاعر الرأي العام العربي، الإسلامي والمسيحي، ولا بموقف دول العالم، وعلى رأسها دولة كبرى منافسة هي روسيا، وهو خطأٌ كانت الإدارات الأميركية السابقة تفضل تجنبه، لأنه يضع الولايات المتحدة في مواجهة مباشرة مع غضب المجتمع الدولي على النحو الذي يحدث الآن مع ترامب. كما أخطأ ترامب أيضاً، في أنه لم يُحسن قراءة تطورات الوضع الأمني في المنطقة، ولاسيما تراجع الجماعات الإرهابية التي نشطت على خلفية قرارات الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، وتبعه باراك أوباما، خاصة خلال فترة رئاسته الأولى، ولم يُحسن فهم أهمية احتواء تمدد النظام الإيراني، الذي غالباً ما يستفيد من أخطاء الإدارات الأميركية في المنطقة، الأمر الذي ينعش آمال هذا النظام في العودة في المنطقة أو مناطق أخرى من العالم، تحت شعار الغضب من السياسات الأميركية.

في الواقع أن إدارة ترامب للسياسة الخارجية لبلاده في منطقة الشرق الأوسط تقترب من إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، والتي وفرت مظلة سياسية للعربدة الإيرانية واستفزاز الشعوب العربية بفعل تدخل طهران في الشؤون الداخلية للدول العربية، ودعم ميليشيات تابعة داخل الدول العربية تدافع عن المصالح الإيرانية وتنشر الفوضى في بلدانها، ولعل الزيارة الأخيرة للمدعو قيس الخزعلي إلى جنوب لبنان تمثل مظهراً فجاً من مظاهر التدخل الإيراني المستفز في الدول العربية. والاختلاف بين إدارتي ترامب وأوباما يتمثل فقط في الأسلوب المستخدم، فأوباما كان يخلق الفوضى ويدعمها ويباركها بخطابه السياسي وكلماته، في حين يقوم ترامب بذلك بأفعاله المتهورة، وهذا من شأنه أن يستدعي إلى الساحة السياسية أصحاب الأجندات الدينية والطائفية ممن يدعون المقاومة من أجل استرجاع حقوق المسلمين.

على المستوى الرسمي، لم تقبل الدول العربية والإسلامية ما أعلنه ترامب، وقد أعرب معظمها عن رفضه واستنكاره بشكل علني، لكنّ الحقيقة أن بين من أعلنوا اعتراضاتهم الصاخبة من سعِد بالقرار في قرارة نفسه، ونستطيع أن نسمي إيران و«داعش» على الأقل من بين من أسعدهم القرار، لأنهما حصلتا على جائزة أو هدية لإطالة عمر الفوضى في المنطقة. والخوف، كل الخوف، أن يؤدي هذا القرار إلى صرف الانتباه عن سياسات إيران وأذرعها السياسية المزعزعة للاستقرار، خاصة بعدما حققت الدول العربية انتصارات ضد مشاريعها ودفعت بها إلى التقوقع في الداخل.

إن دولة الإمارات هي اليوم «ضمير العرب»، وهناك العديد من المؤشرات لحضورها السياسي القوي في الإقليم، ومنها: حماية مصر من الانهيار السياسي بفعل الفوضى الأمنية، وكذلك الأمر في اليمن، حيث كان للقوات الإماراتية دور مشهود في القضاء على الانقلابيين والاقتراب من استعادة كامل الشرعية، ما يعني أن صانع القرار الإماراتي يحمل الهم العربي، وينشغل به. ولهذا فإن حديث صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مع الوفد الأميركي يعبر عن موقف الرأي العام العربي كله، حيث نصح واشنطن بأن تكون حريصة في التعامل مع ملفات المنطقة، لأن الشرق الأوسط لا يحتمل تصعيداً جديداً!