فـــؤاد مطـــر

 سيُكتب لهذا العام 2017 الذي بدأ العد العكسي لانصرافه أنه ربما سيكون أكثر أعوام الربع الأول من القرن الواحد والعشرين من حيث المفاجآت التي اختلط فيها المبهج القليل مع المحزن الكثير، وأبرز حلقاته إيلاماً ذلك الموت غير الرحيم للرئيس علي عبد الله صالح الذي غادر وهو رئيس سابق وليس رئيساً مخلوعاً؛ وفي ذلك ما يمسح من صفحات سنوات حُكمه الطويل مواقف أفرزت نزفاً بدل أن تنشر وفاقاً.

وعلى هامش المبهج والمحزن، تتصدر المشهد حالتان؛ الأُولى منقوصة الحكمة والحنكة وترتبط بالذي فعله الرئيس دونالد ترمب من حيث القرار الذي اتخذه في شأن الموضوع الفلسطيني، والتعامل مع موضوع القدس كرجل أعمال وليس كرئيس دولة عظمى أبرم صفقة مع رئيس حكومة ملاحَق، وإنْ مع شيء من وقْف التنفيذ من الشرطة والقضاء بتهمة الفساد وتتزايد المطالبة بنزع الثقة عنه. وإذا جاز القول، فإنه لو لم يتسرع الرئيس ترمب في خطوته هذه لكان بنيامين نتنياهو ملتحقاً بسلفه إيهود أولمرت.
بنسبة متواضعة من حُسْن الظن، يمكن الافتراض أن الرئيس ترمب يهيئ لمبادرة يفي بها تكريماً لقيه من الجمع الإسلامي والعربي في الرياض يومي 20 و21 مايو (أيار) 2017، بل إن التكريم كان في بعض جوانبه تدعيماً لمكانته داخل الولايات المتحدة وأمام المجتمع الدولي. وليس مبالغة القول إن الذي حققه في زيارته الأولى إلى الصين كان بفضل قمة تعظيم الشأن التي لقيها في الرياض، ولم يحدُث أن لقيها أحد من رؤساء الولايات المتحدة في حقبة الملوك الأبناء.
كما يمكن الافتراض أن الرئيس ترمب تصرَّف على أساس أن قرار نقْل السفارة إلى القدس سيكون متبوعاً لاحقاً، وفي ضوء ردود الفعل العربية والإسلامية والدولية بالمبادرة. وفي نظره أنه بذلك كمَن اختبر علاجاً لحالة مستعصية من حالات الصراعات التاريخية، ولم تأتِ النتيجة كما هو المأمول؛ ولذا عليه أن يعاود المحاولة بتعديلات تفرز الخطأ من الصواب. أما كيف لم تأتِ النتيجة كما هو المأمول فلأن مَن هم حلفاء أو أصدقاء وفي دول القارات الخمس وبالذات القارة الأوروبية فوجئوا بالفعل الأميركي المتعجل، وقالوا بالصوت الجهور إنهم غير موافقين في الحد الأقصى وغير مقتنعين في الحد الأدنى. وخير دليل على غير الموافقة وغير الاقتناع يتمثل في موقف عاقل للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومثله للاتحاد الأوروبي عموماً. لكن يبقى الموقف البريطاني لافتاً بشكل خاص؛ ذلك أن هذه الدولة الكبرى تصرفت بحكمة وحنكة، وبصرف النظر عما إذا كانت باعتراضها على قرار ترمب تريد في ثنايا الاعتراض الاعتذار من الأمتين العربية والإسلامية عن خطأ «وعد بلفور»، الذي شرَّع قيام كيان إسرائيلي على أرض فلسطين، ومن دون الأخذ في الاعتبار حجم الغضب الذي ينشأ نتيجة ظاهرة تقديم الأوطان، وبما عليها من مقدسات إلى آخرين، ثم عندما تحل مئوية الوعد فإن «الواهب» يحوِّل المناسبة المبغوضة إلى «يوم وطني».
الآن، وقد قالت الأمة الإسلامية - العربية بأصوات متنوعة كلمتها، وعلى رغم اختلاط الألفاظ المنفعلة والهتافات الصارخة، والتصرف المكروه المتمثل بإقدام البعض على حَرْق العلم الأميركي، يصبح مأمولاً من الرئيس ترمب طرْح ما نفترض أنه في الحفظ والصون في واحدة من الإضبارات. وسواء كان الطرْح يقضي، بعد اعتبار قرار يوم 6 ديسمبر (كانون الأول) بمثابة ورقة منزوعة من كتاب العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، بتثبيت القدس عاصمة للدولة الفلسطينية أو توحيد القدس بغربها كامتداد لشرقها مع القدس ذات الرمز الإلهي للتوحد الديني، وتسميتها العاصمة الدينية المحايدة، وفي هذه الحال تصبح تل أبيب هي عاصمة الكيان الإسرائيلي ورام الله عاصمة الدولة الفلسطينية، فإنه طرْح يهدئ النفوس ويكفل نشْر الاستقرار، ولا يعود هنالك مبرر لأصوات ينطبق عليها القول الشائع مع بعض التعديل «اسمع جلبة ولا أرى طحيناً».
ذلك هو المأمول من إدارة الرئيس ترمب في حال أعطى نفسه فسحة من التأمل في رد الفعل على خطوته غير المستحبة وإلى حد ما غير المتوقعة منه حتى إذا كانت من أجل استبدال التدفق المالي والعسكري على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بقرار «نقْل السفارة» إلى القدس، وهو احتمال وارد بالنظر إلى أن الوضع الاقتصادي والمالي الأميركي الراهن الذي ما كان لينتعش قليلاً لولا بعض مليارات خليجية وصينية، لم يعد يسمح باستمرار العطايا الأميركية للحكومات الإسرائيلية، وبذلك ينطبق على حال إدارة الرئيس ترمب قول الشاعر العربي «لا خيل عندي أهديها ولا مال، فليسعف النطق إن لم تُسعف الحال».
ومن المؤكد أن دونالد ترمب الرئيس وليس رجل الأعمال، قد يأخذ في الاعتبار كيف أن رمزيْن روحيين يعكسان أهمية القدس في المجتمع الإسلامي – المسيحي اضطرهما قراره إلى أنهما يرفضان استقبال نائب رئيس دولة في نظرهما صديقة. كما قد يأخذ في الاعتبار كيف أن شعوب العالم المسيحي بمَن فيها الشعب الأميركي نفسه صُدمت بذلك الفعل. وهي إذا كانت لم تعبِّر عن الغضب بالتظاهر والهتاف والبيانات وإحراق الصور فلأنها رأت في موقف حكوماتها، وهنا نقصد حكومات دول أوروبا بالذات، ما يفي بالغرض.
في تاريخ الرئاسات الأميركية بدءاً من النزاع العربي - الإسرائيلي موقف عاقل يتسم بالحكمة والحنكة اتخذه الرئيس الرابع والثلاثون داويت آيزنهاور، ويتمثل بوقفة اتخذها ضد العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي - الإسرائيلي على مصر عام 1956. يومها انطبع في الضمير العربي أن الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة يمكن أن يبني علاقة من الثقة المتبادلة مع الأمتيْن العربية والإسلامية. وفي عام 1967 اتخذ الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول موقفاً صحح فيه سمعة أسلاف سبقوه، وبالذات حقبة الشراكة في العدوان الثلاثي على مصر. 
ما تتمناه الأمتان أن يحذو الرئيس ترمب (الجمهوري) في الموضوع الفلسطيني الموقف الذي اتخذه آيزنهاور (الجمهوري) إزاء العدوان الثلاثي على مصر. أما فرنسا، فإن رئيسها ماكرون بمعارضته قرار ترمب بنقل السفارة إلى القدس أضاف إلى التصحيح الديغولي في شأن العدوان الثلاثي على مصر المزيد من التصحيح، وفعلت الشيء نفسه رئيسة وزراء بريطانيا باعتراضها على قرار نقْل السفارة تصحيحاً خجولاً منها «وعد بلفور»، لكنه موقف مهم من جانبها.
أمام هذه المواقف - المحطات نبقى متوقعين تصحيحاً مفاجئاً ومحموداً من جانب الرئيس ترمب لقراره المفاجئ والمبغوض الذي اتخذه وتصرَّف وكما لو أن القدس هي مشروع تجاري بين رجل أعمال ناجح ورئيس حكومة برسم تثبيته فاسداً. وفي حال حدث ذلك قبل غروب شمس اليوم الواحد والثلاثين من ديسمبر، فإن الرهان العربي – الإسلامي عليه يوم 20 مايو في الرياض كان في محله... وإلاَّ فعلى العلاقة المستقرة مع سنوات ترمب السلام.