دينيس روس و ديفيد ماكوفسكي

القدس، لا يتفوق عليها في إثارة الشجون في الشرق الأوسط إلا قضايا قليلة. واستجابات الزعماء العرب العلنية على اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس كعاصمة لإسرائيل الأسبوع الماضي اتسمت بالسرعة والنبرة السلبية. وهذا يرجع في جانب منه على الأقل إلى أنهم لم يتلقوا إلا القليل من التنبيهات بشأن ما هو قادم، كما أنهم لا يتحملون أن يظهروا بمظهر من يتخلى عن حقوق العرب والفلسطينيين والمسلمين في المدينة وأماكنها المقدسة.

والمثير للسخرية هو أن ما قاله ترامب لا يتنازل عن هذه الحقوق والمطالبة بها. واعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل يعكس واقع أنها مقر الحكومة الإسرائيلية، وأن القدس ستظل دوماً في نظر الدولة اليهودية، عاصمتها، ولا يمكن أن تكون هناك مدينة غيرها تحل محلها. والفلسطينيون أيضاً لا يمكنهم أن يتخيلوا مدينة غير القدس عاصمة لدولتهم، إذا حدث وخرجت مثل هذه الدولة من عباءة المفاوضات المتوقفة حالياً. وتصريح الرئيس الأميركي لم يستبعد هذا، بل على العكس قال إن الولايات المتحدة لا تتخذ موقفاً بشأن «الحدود الدقيقة للسيادة الإسرائيلية في القدس أو قراراً بشأن الحدود المتنازع عليها»، وأضاف أن حسم هذه المسائل «يرجع إلى الأطراف ذات الصلة».

ومع الأخذ في الاعتبار المخاوف العربية والفلسطينية واحتمال أن تشوه «حماس» و«حزب الله» وإيران و«القاعدة» ما تفعله الولايات المتحدة لإذكاء الغضب والعنف، فمن الضروري أن تكون رسالة إدارة ترامب واضحة ومتسقة فيما يتعلق بعدم إصدار أحكام مسبقة على وضع القدس. والحفاظ على ضبط الرسالة لم يكن من السمات المميزة للبيت الأبيض في عهد ترامب لكن هذا ضروري الآن. فيجب ألا يُسمح بنشر تغريدات طائشة على تويتر، والمراهنات مرتفعة للغاية، وخاصة إذا أُريد بقرار الرئيس ألا يستغله أعداء السلام.

وهذا يعني التكرار والتأكيد على الفكرة الرئيسية للرئيس ترامب في خطبته التي مفادها أن الولايات المتحدة تميز بين الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل والحاجة إلى مفاوضات لحسم كل مطالبة بالحقوق من الإسرائيليين والفلسطينيين، بما في ذلك المسائل المتعلقة بالقدس، ويتعين على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يحسموا هذه القضايا مباشرةً ودون تدخل من الخارج.

ولهذه الازدواجية منطقها، فمقر رئيس الوزراء الإسرائيلي والبرلمان الإسرائيلي يقعان في جزء من القدس لا تنازع عليه وهو أمر قائم لما يقرب من 70 عاماً. وفي الوقت نفسه، ومع الأخذ في الاعتبار الطبيعة المركزية التي يحتمل أن تكون شديدة الحساسية للقدس، فمن الحيوي ألا يبدو أن هناك استفزازاً لقدرة الأطراف على تقرير حدود المدينة واحتمال أن تكون أو لا تكون عاصمة لدولتين، فقد دعا إسماعيل هنية زعيم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالفعل إلى انتفاضة. وتشير أعمال العنف يوم الجمعة الماضي في الضفة الغربية إلى أن الغضب من إعلان الرئيس الأميركي يمكن استغلاله بشكل أكبر، وهذا يساعدنا على تعليل إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على لعب دور الوسيط.

وكل الأطراف تنظر إلى القدس من خلال عدسة المشاعر. ولذا يستطيع المتطرفون أن يشوهوا أي قرار لينتج عنه عنف. وإذا ظهرت الولايات المتحدة كما لو أنها تغلق باب قضية القدس أو تتبنى ببساطة الموقف الإسرائيلي الذي مفاده أن كل القدس يجب أن تخضع للسيادة الإسرائيلية، فقد يسمح هذا للمتشددين بالاستحواذ على هذه القضية شديدة الحساسية، وسيقتنصون بالتأكيد الفرصة لخلق حالة استفزاز ضد الولايات المتحدة وشركائها من العرب والفلسطينيين وخاصة عباس والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني. ويتعين على الإدارة الأميركية أن تأخذ في الاعتبار الضغوط المحتملة التي يقع تحتها هذان الزعيمان.

وتستطيع إدارة ترامب اتخاذ خطوة عملية لتقليل قدرة المتشددين على استغلال قرار الرئيس لصالحهم، وتتمثل هذه الخطوة في أن يظهر مسؤولون أميركيون كبار في كل منفذ إعلامي ناطق بالعربية ليشرحوا ما يعنيه وما لا يعنيه هذا القرار. ويجب على هؤلاء المسؤولين توضيح موقف الإدارة بأنها لا ترجح الكفة ضد المصالح الفلسطينية في القدس. ويتعين توضيح أن الولايات المتحدة ما زالت تؤكد أن القضايا الأساسية المتعلقة بمستقبل القدس وقضايا السيادة والمزاعم الإسرائيلية والفلسطينية المتعارضة يجب حمسها بالتفاوض قبل إبرام اتفاق سلام. وكلا عنصري الرسالة يجب أن يكون شعاراً يكرره مسؤولون أميركيون كبار، على مسامع الجمهور العربي في الأسابيع المقبلة. ومن بين هؤلاء المسؤولين الذين يجب أن يكرروا هذه الرسالة، نائب الرئيس مايك بينس حين يزور المنطقة.

وهذا أفضل أمل لتعزيز موقف الزعماء العرب والفلسطينيين الذين يتعين عليهم مقاومة جهود جهات مثل «حماس» التي ستسعى إلى تشويه الواقع والزعم بأن القدس تم التنازل عنها، ومن الواضح أنها تريد استثارة العنف وتعزيز الاستقطاب. وهذه الطريقة يمكنها أيضاً أن تبدأ بتغيير الأجواء بطريقة تسمح لعباس ومفاوضيه، مثل صائب عريقات، بأن يتراجعوا عن بعض تصريحاتهم بشأن إنهاء عملية السلام وانتهاء الدور الأميركي فيها.

ونقل هذه الرسالة ليس مهماً فحسب لتفادي العنف، بل يضمن أيضاً أن الخطة التي تعتزم إدارة ترامب تقديمها للإسرائيليين والفلسطينيين والدول العربية لم تولد ميتة. وما جعل الرؤساء السابقين، بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما يلجؤون إلى عدم التوقيع على القرار، لم يكن افتقارهم إلى الشجاعة، بل لأنهم اعتقدوا أن التوقيع على القرار يحرم الفلسطينيين والعرب من المساحة السياسية المطلوبة لاتخاذ قرارات صعبة من أجل السلام، مما يجعل تحقيق السلام أكثر صعوبة، وجادل الرئيس ترامب في تصريحه أنهم كانوا على خطأ، وإذا أراد ترامب أن يثبت أنه على صواب في ذلك، يتعين عليه أولاً أن يوضح أن مصالح وحقوق العرب لم يجرِ التخلي عنها بالفعل ثم يقدم خطة سلام موثوق بها تتضمن القدس.

عن دورية «فورين بوليسي»

*المبعوث الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط ومستشار معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

**مدير مشروع عملية السلام في الشرق الأوسط بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى