سمير عطا الله

أتلقى منذ سنوات رسائل خاصة، بعضها من زملاء ناشئين، يطلب أصحابها المساعدة في «مراجعة» بعض النصوص قبل نشرها، أو إعطاءهم النصائح التي تفيد في تقدمهم. وربما كان هذا الأمر طبيعياً، ويحدث منذ القدم. وهو بالدرجة الأولى مبعث اعتزاز للكاتب، يجدد ثقته بنفسه، ويرفع من معنوياته، التي هي طاقته الأساسية في تمتين قدرته.

وقد قرأت على مدى السنين مجموعات من الرسائل التي وضعها كتّاب معروفون في صيغة نصائح إلى طالبيها، أو نقد أو نهي. لكن لنتوقف قليلاً عند شاب يكتب إلى إرنست همنغواي طالباً مساعدته: هل سوف يتعلم أكثر من رسالة (أو مراجعة) يكتبها له همنغواي، أو من قراءة نصوصه، مرة ثم مرة، ثم بعد زمن مرة أخرى؟ قال همنغواي مرة: «الوقت الذي أملكه سوف أصرفه في كتابة ما أريده أنا، لا ما يريده سواي». وليس في ذلك أي أنانية، وإنما فيه حق وأمثولة. الحق هو حق لرجل في وقته، والأمثولة هي أن طالب العلم يستطيع العثور عليه في مواقع لا حد لها، وبلا انتهاء، وليس في رسالة محدودة أو أكثر.

ويسألني أحباء كثيرون، مَن أقرأ من أجل أن أكتب. وأول إجابة تخطر لي، اقرأ أولاً من أجل أن تقرأ. الكتابة تأتي لاحقاً وطوعاً. وهو تماماً عكس ما يحدث في ديارنا حيث يمكن أن يمضي البعض عمراً كاملاً في الكتابة من دون أن ينتقد كتاباً. وليس في الحياة أستاذ واحد. من ليس له سوى أستاذ واحد، ليس له سوى كتاب واحد. من أجمل دروس الكتابة والقراءة في حياتي عندما لمع في خاطري أن أقرأ في وقت واحد ما كتبه اثنان من كبار الأدباء عن موضوع واحد: جورج أورويل وهمنغواي عن الحرب الأهلية الإسبانية. ثم قرأت ما كتبه من هناك أندريه مالرو. ثم قارنت الكلمات التي يستخدمها كل منهم. وعددها. ماذا لو أنني طلبت من الثلاثة «نصائحهم» في رسائل يبعثون بها؟ إن النص، أو الطريقة، هو الدرب الأهم. اكتشفت من قراءة «اليوميات» (وليس المذكرات)، أو الرسائل المتبادلة، حتى لكبار الأدباء، أنني لم أتعلم شيئاً منها. كأنها كتابات للحواشي: «التلال قبالتنا كانت رمادية ومجعدة مثل جلد فيل».

هل يمكن لهمنغواي أن يورد مثل هذه الروعة في رسالة إلى كاتب ناشئ؟ أو أن يبلغه «بأن الحرب هذا الخريف كانت لا تزال هنا، لكننا هذه المرة لم نذهب إليها»؟ قال همنغواي: «التلال قبالتنا رمادية ومجعدة مثل جلد فيل»، ونظر أورويل إلى التلال نفسها فقال: «كانت طويلة وبيضاء». اختر، أم أنك تفضل غارسيا لوركا: «رياح خضراء، غصون خضراء، والمركب في البحر والفرس على الجبل».