إدريس لكريني

ظلّت القضية الفلسطينية تتموقع على رأس قائمة الاهتمامات والأولويات الشعبية والرسمية في المغرب، ذلك أن المغاربة يعتبرونها قضية وطنية. وتشير الأحداث والوقائع إلى أن أضخم التظاهرات الشعبية التي خرج فيها المغاربة محتجين بصور تذوب فيها الخلافات السياسية والإيديولوجية والحزبية، كانت بخصوص القضية الفلسطينية، وردّاً على الاعتداءات «الإسرائيلية» المتكرّرة على حقوق الشعب الفلسطيني.

استضاف المغرب على امتداد عدة عقود، مجموعة من القمم واللقاءات العربية والإسلامية والدولية الوازنة التي سعت في مجملها إلى دعم الحقوق الفلسطينية المشروعة في الأراضي المحتلة، وإلى المرافعة بشأن هذه القضية التاريخية والعادلة في مختلف المنابر والمؤسسات الدولية.

ويرأس العاهل المغربي لجنة القدس، وقد أنشئت منذ عام 1975 في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي ويوجد مقرها بالعاصمة المغربية الرباط، وتحرص هذه المؤسسة على التصدّي لكل التوجهات «الإسرائيلية» الساعية لتهويد القدس، والعمل على حماية معالمها وهويتها العربية والإسلامية، ودراسة الوضع في المدينة ومتابعة القرارات المصادق عليها بشأنها من جانب مختلف الهيئات والمحافل الدولية.. وقد أنشأت هذه اللجنة وبمبادرة من الملك الراحل الحسن الثاني وكالة بيت مال القدس عام 1998 وهي هيئة عربية إسلامية غير هادفة للربح، تعنى بتقديم العون والمساعدة الاجتماعية لساكنة القدس، عبر تنفيذ عدد من المشاريع في مجالات الصّحة والتربية والتعليم والإسكان وقضايا المرأة والطفولة والشباب.. وحماية هذه المدينة المقدسة من مخاطر التهويد.

وتشير الدراسات إلى الارتباط التاريخي الوثيق للمغاربة بالقدس، فقد حرصوا على المرور بفلسطين وزيارة القدس الشريف خلال رحلات الحجّ، كما زارها الكثير من العلماء والطلاب المغاربة، تقديراً لمكانتها العلمية والروحية، فيما استقر بها عدد منهم منذ زمن بعيد، وهو ما تؤكده الكثير من عقاراتهم وأملاكهم وأوقافهم، ويشهد عليه أيضاً حيّ المغاربة بالقدس، والذي كان يضمّ عدداً من هذه الأوقاف التي تنامت بعد فتح القدس منذ أواخر القرن السادس الهجري، ويقع معظمها - بحسب المؤرخين والباحثين- قرب حائط المبكى، وهي عبارة عن مساكن ومبان قديمة، ترجعها بعض الدراسات إلى عهد الدولة المرينية، وقد عملت سلطات الاحتلال على تهديمها وطمس آثارها ومعالمها.

دعا المغرب غير ما مرة، كما هو الشأن بعدد من الدول الداعمة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وترافع بصدد هذه القضية العادلة في عدد من المناسبات، ومن داخل مجموعة من المنابر الإقليمية والدولية، كما دعا الأطراف الفلسطينية إلى رصّ الصفوف وتجاوز الخلافات.

في خطوة غير محسوبة ولا تخلو من مجازفة، أصدر الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» قراراً يقضي بنقل السفارة الأمريكية في «إسرائيل» من «تل أبيب» إلى القدس، وهو القرار الذي تردّد عدد من الرؤساء الأمريكيين السابقين في اتخاذه بالنظر لخطورته وتداعياته الكبرى.

خلّف القرار موجة غضب عارمة في الأوساط الشعبية والرسمية بعدد من الدول العربية والإسلامية وعلى امتداد مناطق مختلفة من العالم، ويأتي القرار ضمن سلسلة سلوكات مستفزة اتخذها الرئيس «ترامب» منذ توليه الرئاسة، سواء على المستوى الداخلي في ارتباط ذلك بتعليق استقبال اللاجئين، والانسحاب من اتفاقية التجارة العابرة للمحيط الهادي وتغيير قانون الرعاية الصحية «أوباما كير»، أو على المستوى الخارجي في علاقة ذلك بحظر دخول رعايا سبع دول إلى الأراضي الأمريكية، أو على مستوى التّنصل من الالتزامات الدولية المتصلة بالأمن البيئي.

كما يأتي القرار ليجسّد استمرار سياسة الاستعلاء التي باتت تنهجها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، ولينهي الآمال الواهمة بصدد الدور الأمريكي ك «راعي سلام» في الشرق الأوسط.

لم تتردد الكثير من الدول والمنظمات والشخصيات السياسية والأكاديمية الدولية في التحذير من خطورة هذا القرار على مستقبل السلام في المنطقة، حيث يبدد آمال التوصّل إلى تسوية سلمية للصراع العربي- «الإسرائيلي»، ما يهدد بتفجير الأوضاع وزعزعة السلم والأمن العالميين، خصوصاً وأن القدس تمثّل رمزاً مقدّساً لكل الأديان السماوية.

قبيل صدور القرار، بعث العاهل المغربي محمد السادس بوصفه رئيس لجنة القدس، المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي، التي تضم 57 دولة تمثل أكثر من مليار نسمة، رسالة إلى الرئيس «دونالد ترامب»، عبّر فيها عن قلقه الشخصي والقلق البالغ الذي ينتاب الدول والشعوب العربية والإسلامية، إزاء الأخبار المتواترة بشأن توجّه الإدارة الأمريكية للاعتراف بالقدس عاصمة ل «إسرائيل»، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، ملفتاً إلى ما تشكّله المدينة من أهمية قصوى، ليس فقط بالنسبة لأطراف النزاع، بل ولدى أتباع الديانات السماوية الثلاث، وداعياً إلى الحفاظ على مركزها القانوني، والإحجام عن كل ما من شأنه المساس بوضعها السياسي القائم.

كما بعث برسالة أخرى إلى الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيرس»، أبرز فيها أن «المساس بالوضع القانوني والتاريخي المتعارف عليه للقدس، ينطوي على خطر الزّج بالقضية في متاهات الصراعات الدينية والعقائدية، والمسّ بالجهود الدولية الهادفة لخلق أجواء ملائمة لاستئناف مفاوضات السلام»، ودعا فيها المسؤول الأممي إلى تكثيف المساعي لدى الإدارة الأمريكية للإحجام عن اتخاذ أي إجراء يخصّ هذه المدينة المقدسة.

وشهدت مدينة الرباط يوم الأحد 10 ديسمبر 2017 تظاهرة حاشدة شارك فيها آلاف المغاربة بكل أطيافهم السياسية والحزبية والمدنية.. ندّدوا خلالها بالقرار الأمريكي، فيما استنكر رئيس الحكومة المغربي د.سعد الدين العثماني، هذا القرار الذي اعتبره مخالفاً للحقيقة التاريخية والواقعية، مشيراً إلى أن القدس خط أحمر لا يمكن التساهل فيه.. كما ندّد البرلمان المغربي، بمجلسيه بشدّة بقرار الإدارة الأمريكية في هذا الخصوص، لكونه يمسّ بصورة صارخة بالشرعية الدولية ويزيد من تأزيم وتعقيد الأوضاع في المنطقة. 

وقد عبّر وزير خارجية فلسطين عن الامتنان والشكر للمغرب على مواقفه بخصوص هذا القرار الجائر، وعلى تضامنه الداعم للقضية الفلسطينية، خلال أشغال الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب، لبحث تداعيات الخطوة الأمريكية بشأن القدس المنعقد بالقاهرة أخيراً.