فيما يمعن بوتين في تكرار إشارات الإذلال التي يمارسها بحق بشار الأسد عند كل لقاء يجمعه به، تبدو طهران، كما دمشق، مستسلمة لحقيقة أن مصير رجل دمشق هو رهن ما يقرره الكرملين وسيده يوما ما.

محمد قواص

بات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يطل على منطقة الشرق الأوسط بصفته الرقم الصعب الذي لا بد منه. تجاوز الرجل مرحلة السعي لإحداث اختراق داخل ما كان يعتبر جزءا من الفضاء الاستراتيجي الأميركي. أضحت روسيا حاضرة بقوة وأضحى العالم بأجمعه، بما في ذلك الولايات المتحدة، مُسلّما بالنفوذ الروسي في المنطقة، مستسلما خصوصا للوظيفة الروسية في مقاربة المسألة السورية. تلخص رحلة اليوم الواحد التي قادت فلاديمير بوتين الاثنين الماضي إلى سوريا ومصر وتركيا المشهد برمته.

عادت روسيا بقوة إلى مصر بعد عقود على "إهانة" طرد الخبراء السوفيات من قبل الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1972. باتت موسكو شريكة للقاهرة في القطاع النووي (مفاعل الضبعة)، كما باتت مصر أرضا ودودة تستقبل قواعدها العسكرية الطائرات العسكرية الروسية، وبالتالي صارت لموسكو إطلالات متعددة على خرائط العالم.

لكن التفصيل الروسي في مصر يكشف منحى لدى القاهرة نفسها بقطع مع رتابة شابت علاقاتها الدولية لجهة التعويل، ربما الوحيد، على صلابة العلاقة التي تربطها بواشنطن.

كان الرئيس السادات يعتبر أن 99 بالمئة من أوراق الشرق الأوسط في يد واشنطن، فيما بدا أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يكتشف في السنوات الأخيرة كم فقدت الولايات المتحدة من هذه الأوراق. وسيسهل على المراقب ملاحظة أن مصر في استقبالها للخيارات الروسية المتاحة، إنما تعود للتّدثر بعباءة روسية جرى إهمالها خلال العقود الماضية.

يكشف الحدث حدّة التحوّل الذي طرأ على استراتيجيات تركيا في العالم. بات البيض التركي يتكاثر في السلة الروسية، بينما يتسرب من سلال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تميلُ تركيا بشكل مطرد صوب الفضاءات الأوراسية، بحيث أن التباين التركي الروسي بات فرعا ينمو على هامش الأصل في استراتيجية العلاقة المتنامية بين البلدين.

بدا أن ما يجمع روسيا وتركيا يتجاوز هواجس الأمن (منظومة الدفاع الجوي الصاروخي إس- 400 الروسية لتركيا) والتي ستطيح يوما بأطلسية تركيا، ويروح بالاتجاه إلى تأسيس مصير مشترك تحدده خطط التعاون الاقتصادي لا سيما في مجال الطاقة (وفق مشروع “تورك ستريم” الاستراتيجي اللافت).

لا يمكن فهم قرار بوتين سحب قسم كبير من قواته من سوريا، إلا علامة من علامات القوة، وليس عارضا من عوارض الحرد التي كان يحلو له ممارستها بسادية يهوّل بها على حلفائه كما على الخصوم. بدا الرجل في زيارته المفاجئة إلى القاعدة العسكرية في حميميم متفقدا حسن سير إدارة من الإدارات الروسية، وبدا من خلال استدعائه الجديد لبشار الأسد متفحصا حسن سلوك الرجل داخل دفتر الشروط الذي تحدّثه موسكو يوميا في شأن مآلات المسألة السورية.

يسحب رجل الكرملين قسما من القوات الروسية في سوريا بما يتسق تماما مع إعلانه السابق عن انتهاء تنظيم داعش داخل هذا البلد. لكنه في الإعلان عن الاستغناء عن الحضور العسكري الثقيل ما يشي بأن بوتين بات ممسكا بقرار سوريا دون الحاجة إلى صيانة ذلك عبر القوة النارية للدولة العظمى.

والظاهر أن بوتين الذي لا شك يستخدم إعلان الانسحاب كأداة من أدوات حملته الرئاسية المقبلة، أصبح يدرك، بعد ورشه في أستانة وتلك السابقة واللاحقة قيد الإعداد في سوتشي، أن أنقرة وطهران لا يملكان خيارات أخرى في الشأن السوري غير تلك التي يعرضها سيد الكرملين. أمر فهمه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو حين علّق أن “خلق انطباع بأن روسيا تنسحب من سوريا غير واقعي”.

وفيما يخيل أن تعفف بوتين العسكري قد يحرر نظام دمشق كما نظام الولي الفقيه في طهران من القيود التي تفرضها الأجندة الروسية في سوريا، تفصح عنجهية بوتين عن ثقة مفرطة في عدم قدرة كافة الأطراف الإقليمية، كما الدولية، على الانخراط في السياق السوري دون المرور من البوابات الروسية.

وفيما يتدلل نظام دمشق في التعاطي مع مفاوضات جنيف بقيادة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، يعلن هذا الأخير ولو من خلال إبلاغه لوفد المعارضة، أن بديل جنيف هو سوتشي وهو أمر تلاحظ موسكو أن دمشق لا تستسيغه أبدا.

تتسرب في الأيام الأخيرة تقارير تتحدث عن ريبة تشعر بها طهران مما يحيكه بوتين مع العواصم الأخرى بشأن سوريا. يعلن بوتين أن تنسيقا سيجري مع مصر في شأن الورشة السورية، فيما يبدو أن اللقاءات الثنائية والثلاثية التي أجراها الرئيس الروسي مع الرئيسين الإيراني والتركي نجحت في تدجين إيران وتركيا والضغط على طموحاتهما داخل الميدان السوري.

يتحرك بوتين داخل بلدان المنطقة وكأنه يصادر ما تحركت به طهران منذ عقود داخل بلدان نفس المنطقة. تجاري السعودية صعود روسيا في الشرق الأوسط وترفد مسعاها في سوريا.

تنتقل العلاقات بين موسكو والرياض من المغامرات التجريبية إلى مراحل الثبات الدائم، ويدرك رجل الكرملين أن زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الأخيرة ترتقي بالعلاقات بين البلدين من إطار رد الفعل ضد واشنطن إلى إطار الفعل مع موسكو.

تلحظ طهران بقلق هذا التحوّل المريب في دور روسيا في الشرق الأوسط. ويستنتج النظام الإيراني غياب أدواته الدفاعية ضد موسكو كتلك التي يستخدمها ضد الرياض أو واشنطن.

لم يصدر عن أي مفوّه في إيران ما ينتقد هذا التواطؤ العلني الروسي في الضربات التي تشنّها إسرائيل منذ سنوات على أهداف تطال قواتها وميليشياتها التابعة داخل سوريا. ولم تملك الأدوات الإيرانية في سوريا إلا هامشا تخريبيا محدودا أمام التفاهمات التي أقامت مناطق خفض التصعيد داخل هذا البلد.

وفيما يمعن بوتين في تكرار إشارات الإذلال التي يمارسها بحقّ بشار الأسد عند كل لقاء يجمعه به، تبدو طهران، كما دمشق للمفارقة، مستسلمة لحقيقة أن مصير رجل دمشق هو رهن ما يقرره الكرملين وسيّده يوما ما.

بدا بوتين في جولة اليوم الواحد، الاثنين الماضي، إلى ثلاث من دول المنطقة، بأنه بات يعتبر الشأن السوري تفصيلا داخل الخارطة التي يطمح إليها في الشرق الأوسط.

وحتى ردّ الفعل الأميركي الذي اعتبر أن قرار الانسحاب العسكري الروسي الجزئي من سوريا لن يؤثّر على عمل القوات الأميركية في هذا البلد، أظهر السعي الأميركي في سوريا بصفته جزءا من فضاء العمليات الروسية هناك، وليس مستقلا أو عصيا على قواعده.

وعليه لا يسير بوتين داخل الشرق الأوسط داخل حقل ألغام أميركي، بل يتجوّل داخل ميدان أزالت واشنطن فخاخه منذ أن ظهر أن نزوع الرئيس السابق باراك أوباما للانسحاب النسبي من المنطقة ما زال معتمدا لدى إدارة دونالد ترامب الحالية، وإن اختلفت مقاربة الأمر وتوضيب أولوياته.


صحافي وكاتب سياسي لبناني