طلال صالح بنان

ما إن أعلن البيت الأبيض، يوم الأربعاء قبل الماضي، اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، إلا و«انتفض» النظامان الرسميان، العربي والإسلامي، خلال أسبوع واحد عُقِدَ اجتماع لوزراء الخارجية العرب في القاهرة (الأحد: 10 ديسمبر).. بعده بـ3 أيام (الأربعاء: 13 ديسمبر)، عُقدت قمة إسلامية في إسطنبول.

قد تكون العجلة في تحري إبداء ردة الفعل، لهذا التطور الخطير، وراء ضعف مخرجات المؤتمرين، لنقارن هذا بالقرار الأمريكي، الذي أخذ من البيت الأبيض 3 عقود لاتخاذه. في عام 1995 سن الكونغرس قانونا بنقل السفارة للقدس.. وقبل ذلك في عام 1989 استأجرت واشنطن أرضاً مستولى عليها مملوكة لأوقافٍ إسلامية تابعة لـ70 أسرة مقدسية، لتشييد سفارتها عليها بواقع دولار واحد في السنة، ولمدة 99 سنة! هذه العجلة، التي تجسدت في مؤتمري القاهرة وإسطنبول، لم تكن إذن: على مستوى خطورة الحدث، بقدر ما كان عامل الوقت مهماً، لتسجيل المواقف، بالتسابق في مضمار لم يُحَضَّر له جيداً.. ولم تتحدد معالم مسافاته بوضوح.. وغاب عنه فرسانه الكبار، ولم يستعد المشاركون فيه جيداً لاستعراض مهاراتهم. بينما الجمهور في الخلفية مغمور بالحدث، غير ملتفتٍ للفعاليتين «الاستعراضيتين»!

كما أن الحدث، نفسه، رغم خطورته، سرعان ما توارى وراء حقيقة الخلافات البينية بين المجتمعين، التي طغت على مراسيم اللقاءين، أكثر منها دافع الإحساس بخطورة هذا التطور الإستراتيجي غير المسبوق في أزمة تتجاوز خطورتها العرب والمسلمين، إلى العالم بأسره. لقد غلب على الحضور سلوك وتوجه المزايدة والكيد، أكثر منه محاولة جادة للتعامل بكفاءة مع حدثٍ جللٍ بخطورة ما صدر عن واشنطن بشأن القدس. لقد تجلى ذلك، بصورة أساسية، بتفاوت مستوى التمثيل.. وخلو القرارات من أية تدابير عملية، وكذا تفعيل لقاءات موازية خارج إطار مؤسسات المنظمتين الإقليميتين.

إن مَن أقْدمَ على مثل هذا القرار في المكتب البيضاوي كان على علمٍ مسبقٍ بردة الفعل الآنية غير المؤثرة هذه، للنظامين العربي والإسلامي، الإدارة الأمريكية، كما جاء في مبررات اتخاذ القرارات، ذكرت: أنها تصرفت وفقاً لما يمليه واقع المشكلة.. وليس ما يَحْكم الأزمة من مقررات وقوانين دولية.. أو أخلاقيات وقيم إنسانية، أو حقائق تاريخية وجغرافية. هنا: الإدارة الأمريكية لا تشير إلى واقع احتلال إسرائيل للقدس وفرض سيطرتها الفعلية عليها، لنصف قرن، فحسب.. لكن، أيضاً: وبوضوح تشير، لواقع قد لا يلتفت إليه الكثيرون، ألا وهو: «تشتت» العرب والمسلمين، طوال الـ50 السنة الماضية، الذين لم يفعلوا سوى ما يرسخ واقع احتلال إسرائيل للقدس، لا التقدم لفرض واقع جدارتهم واستحقاقهم وأهليتهم بزهرة المدائن.

لقد خدم الصهاينة باطل ادعاءاتهم، بينما أهمل العرب والمسلمون حقهم التاريخي والثقافي والديني في القدس. لقد ركن العرب إلى معايير سلبية، بالرغم من أهميتها في تأكيد شرعية لا غنى عنه، إلا أنها - في حقيقة الأمر - لا تقدم أو تؤخر في ردع إسرائيل ومن يدعمها، من ترسيخ واقع باطل وجائر، لا يمكن الرضوخ له، إلا بفرضه عنوةً. في النهاية: معايير الباطل والحق، هي معايير أخلاقية نسبية، ترجح المفاضلة بينها وتأكيد واقعها، القدرة وإرادة المضي في تحقيق الغاية منها. إسرائيل مضت بقوة وإرادة في ترسيخ باطل ادعاءاتها في المدينة المقدسة.. بينما العرب والمسلمون فشلوا في فرض واقع حقهم التاريخي والإنساني والحضاري في بهية المساكن. بالتبعية: خسر العرب معركة كسب تأييد العالم، بل وحتى مؤخراً تعاطفه، لحقهم في القدس، بل وفي فلسطين، بأسرها.

أكيد لن تكترث إسرائيل بما جاء من قرارات، تَخْلو من أي تدابير عملية لاحترامها. قالها، بصراحة نتنياهو: إن قرارات إسطنبول لن تؤثر على إسرائيل، وإن تَعَمَّدَ عدم الإشارة لقرارات القاهرة! من باب أولى، إذن: ألا يُقْنِع ما صدر عن القاهرة وإسطنبول واشنطن أن تعود عن قرارها، بعد أن فشلت آخر محاولة يائسة، بالمصادفة من إسطنبول نفسها، بالتهديد بقطع العلاقات مع إسرائيل، إن أقدمت واشنطن على اتخاذ القرار. إن كل ما فعلته هذه «الضجة» العربية الإسلامية الرسمية، سبق لواشنطن أن حسبت حسابه.. واتخذت ما يكفل امتصاص صدمته الأولى. لقد أعلنت الخارجية الأمريكية: أن النقل لن يكتمل قبل سنتين.. علماً أن لواشنطن قنصلية في القدس، بإمكانها أن تجعل منها مقراً مؤقتاً للسفارة، وتُفعِّل قرار النقل فوراً، إن هي كانت تسعى للمواجهة والتصعيد، في هذه المرحلة.

ما لم يعِ العرب والمسلمون أن أسلوب تعاملهم التقليدي مع واقع وجود إسرائيل نفسها، لم يعد مجدياً، ولا بد من تغييره بالعمل على فرض واقع يؤكد رفض القبول بواقع إسرائيل نفسها، بصورة عملية مؤثرة وفعالة، تدعمه أدوات ردع إستراتيجية ذات مصداقية فعلية وإرادة ماضية حقيقية، فإن المحصلة النهائية تكون تمكين واقع باطل ادعاءات الصهاينة ومؤيديهم في الغرب من القدس، وفلسطين بأسرها. في النهاية: سيتطور السيناريو الأخطر، عندما تصبح إسرائيل، بلا منازع. وربما بلا رجعة، قوة إقليمية مهيمنة، عندها لن تضيع القدس، بل هيبة العرب والمسلمين.. ومعها مقدسات المؤمنين في مدينة الصلاة.

بتيه قضية القدس بين القاهرة وإسطنبول، في مثل هكذا فعاليات مرتجلة يحكمها نهج رد الفعل وليس إرادة المبادرة، لنقل: «السلام» على أرض السلام.. بل على السلام، نفسه.