إبراهيم غرايبة 

يذكّر ريتشارد سينيت أستاذ علم الاجتماع الأميركي ومؤلف كتاب «في مواجهة التعصب التعاون من أجل البقاء»، والذي ترجمه حسن بحري وصدر أخيراً عن دار الساقي، بأن التعاون موجود في جيناتنا، لكنه يلزمه تطوير وتعميق. وهذا أمر يكتسب أهمية خاصة عندما نتعامل مع بشر لا يشبهوننا حيث يكون التعاون جهدا متطلبا. والتفكير في التعاون كمسألة أخلاقية يعيق فهمنا، لكن يجب النظر إلى التعاون ودراسته كحرفة تتطلب من البشر مهارة في الفهم والاستجابة للآخر، كي ننجح في العمل سوية. لكن التعاون يبقى حرفة شائكة مليئة بالصعوبات، ويكتنفها الغموض، وتقود في أحيان كثيرة إلى عواقب هدامة.

لقد تحركت الأمم على مدى التاريخ في بناء حضاراتها ومواجهة أزماتها مستلهمةً فكرة قديمة للإنسان كصانع لنفسه – صانع الحياة، هكذا نلاحظ الرابط بين الكيفية التي يصوغ بها الإنسان جهده الشخصي والكيفية التي يقيم بها علاقاته الاجتماعية وبين البيئة المادية المحيطة. وربما لأجل ذلك تصعد بقوة مؤثرة الروابط القبائلية والعشائرية لأنها استجابات مدعومة بذاكرة وتجارب طويلة ومتراكمة في التاريخ والذاكرة كما أنها مصحوبة بمشاعر قوية من القرابة والانتماء والروابط. فهي تضامن مع آخرين مشابهين لنا، وبحث عن عدائية ضد من هو مختلف، كما أنها وهذا الأكثر حضورا وأهمية في التشكيل الغرائزي للكائنات الحية عمليات دفــاع طبيعي، لأن معظم الحيوانات الاجتماعية هي قبائل تصطاد سوية على شكل قطعان وتعلِّم حدود أراضيها لتدافع عنها، لذلك فإن الحالة الجماعية (سواء كانت قرابية أو دينية أو طائفية أو اثنية) ضرورة للبقاء. يمكن للتعاون أن يترافق مع التنافس، ويمكن ملاحظة ذلك في الألعاب وفي الأسواق والانتخابات والمفاوضات الديبلوماسية. وليس شرطاً لأجل أن نتعاون أن نكون متضامنين في كل شيء أو تربطنا مشاعر قويــة من الانتماء والمودة، فالمهارة هـي أهم ما يحتاجه التعاون، والمهارة هي تقنية إحداث أمر ما أو إجادة صنعه، وكان ابن خلدون يرى أن المهارة ميزة الحرفي.

يقول أمارتيا سن إن مقدراتنا العاطفية والإدراكية لا تحظى سوى بإدراك عشوائي في المجتمع الحديث. فالأشخاص قادرون على القيام بأكثر مما تسمح لهم المدارس وورشات العمل والمنظمات المدنية والأنظمة السياسية القيام به. وأظن أنه في مقدور العرب اليوم اكتشاف أنفسهم من جديد وملاحظة الطاقات الكامنة لإعادة بناء عقد اجتماعي ديموقراطي يتسع لهم جميعا بلا استثناء.

ربما ينقصنا في عالم الصراعات والأزمات العربية القائمة اليوم سواء كانت حروبا أهلية طاحنة أو نزاعات وأزمات داخلية، الحوار والإصغاء الحسن والعميق لبعضنا بعضاً، والقدرة على المتابعة الحثيثة وتأويل ما نقوله لبعضنا بعضاً، والبحث عن معنى الإيماءات والصمت، والكلمات أيضاً. وربما بسبب ذلك فإن الجدل والحوار لا ينتجان أفكاراً جديدة ولا يعززان التعاون، لأننا كمان يقول ثيودور زيلدن لا نكتشف المشترك مع الآخر، أو كما يقول الناقد الأدبي الروسي ميخائيل باختين: كيف يمكن للناس أن يصبحوا أكثر وعيا لوجهات نظرهم نتيجة عملية التبادل بينهم، وأن يزيدوا من فهم أحدهم للآخر، على رغم عدم تمكنهم من الوصول إلى اتفاقات مشتركة؟

لكن التعاون والتسامح ليس فقط مجموعة من القيم والأخلاق، بل إن هذا الجانب في التعاون لا يشكل سوى جزء ضئيل من مهارات وتقاليد العيش المشترك، وفي ذلك فإن العمل للمستقبل والخروج من الأزمات والصراعات في فضائه الاجتماعي العام وغير الرسمي يعتمد على عمليات إصغاء واسعة وعميقة بين الأطراف والفئات والطبقات وجميع المكونات الاجتماعية، إن التفكير في التعاون كمسألة أخلاقية يعيق فهمنا.