عبد الإله بلقزيز

حين تسأل مَن تسأل: أيُّ ردٍّ سياسيّ عساهُ أن يكون فعّالاً على قرار ترامپ (بالاعتراف بالقدس المحتلّة عاصمةً للدولة الصهيونيّة)، تجد مَن يقول لك إنّ الردّ ذاك ينبغي أن لا يَقِلَّ عن انتفاضةٍ فلسطينيّة جديدة على مثال انتفاضتيْ العام 1987 والعام 2000. تكتشف، مع متابعةِ ما يُكْتَب ويُعْلَن من قِبَل الحانقين على القرار/ الجريمة، أنّ الرأيَ هذا رأيُ السَّواد الأعظم من الفاعلين والمتابعين، ممّن يقفون - سياسيّاً وفكريّاً وعاطفيّاً - موقفَ النصرة لحقوق شعب فلسطين، وممّن أغاظًهم الموقف/ الجريمة الذي أتاه ترامب في المسألة، بمقدار ما أَخْنَقْتهُم سياساتُ التخاذل الرسميّة العربيّة تجاه «النازلة»، وحالةُ السلبيّة التي تغشى معظم «الشارع» العربيّ المصدوم والمذهول.
ولقد يُخَيَّل إليك، لوهلةٍ، أنّ الجواب عن المسألة مطابِقٌ ومُفْحِم، فمَن ذا الذي يقْوى على ردّ صفعة ترامپ بما هو نظيرٌ لها، في الوقْعِ والإيذاء، أو أشدُّ غيرُ الشعب الفلسطينيّ من داخل وطنِه المحتلّ؟ ومَن ذا الذي يستطيع أن يُعيد قضية صرْف الانتباه عنها غيرُ الشعب الفلسطينيّ الذي سيلاحق البيت الأبيض ورجالَه، كلعنةٍ دائمة، فيضعهم - ويضع «المسؤول» الأوّل فيهم - في قفصِ محكمة التاريخ؟ ولكن ما إنْ تبدأ في التدقيق في مضمون الجواب، وتقليبه على وجوهه كافّة، حتّى تتبيَّن ما يُضمِره من معاني الاتّكاليّة والتقاعُس، وآيُ ذلك أنّ من يذهبون إلى القول بالحاجة إلى انتفاضة فلسطينيّة ثالثة جديدة، للردّ على الجريمة، ليسوا جميعاً ممّن ينتسبون إلى قوًى شعبيّة عربيّة - عريقة في مناهضة الصهيونيّة ونصرة الشعب الفلسطينيّ - بل في جملتهم نخبٌ حاكمة في البلاد العربيّة. ومن دون قدْحٍ في موقف بعض النخب الرسميّة، واتهامها بأنّ موقفَها هذا محاولةٌ منها لتبييض السياسة الرسميّة، يكفي أن نقول إنّها بدعوتها هذه تكتفي من المسألة كلِّها بطرح جدولِ أعمالٍ على الشعب الفلسطينيّ، من دون أن تطرح على سياساتها الرسميّة جدولَ أعمال!
نعم، إنّ انتفاضةً شعبيّةً فلسطينيّةً جديدة ستكون ردّاً موجِعاً على جريمة 6 ديسمبر النكراء، ولكن بشرط أن لا تكون الردّ الوحيد عليها، وأن تنشأ في امتدادها، وبموازاتها، ردودٌ أخرى عربيّة وإسلاميّة: رسميّة وشعبيّة، تزيد قوةَ الضغط فاعليّةً، وتكون قادرةً على إبطال القرار وحماية القدس من كل خطرٍ يتهدَّد هويّتها العربيّة. ليست القدسُ فلسطينيّةً حصراً، بل ليست فلسطينُ برمّتها فلسطينيّة حصراً، بل عربيّة وإسلاميّة أيضاً. وكما أنّ الشعب الفلسطينيّ، وحركتَه الوطنيّة ومؤسساته السياسيّة، معنيّ بتحريرها من الاحتلال الصهيونيّ، ونيْل حقوقه الوطنيّة والتاريخيّة الثابتة في وطنه، كذلك العرب والمسلمون معنيُّون - دولاً وشعوباً - بتحرير وطنٍ من أوطانهم مغتَصَب بالحديد والنار، واستعادةِ حقوقٍ لهم منهوبةٍ منهم منذ سبعين عاماً. وهذا واجبٌ قوميّ ودينيّ لا يكفي فيه الدعم اللفظيّ للشعب الفلسطينيّ، ولا الشجب الكلاميّ للقرار الأمريكيّ - على طريقة بيان وزراء خارجية الدول العربيّة - بل لا يكفي فيه حتى الدعم الماديّ والماليّ العربيّ والإسلاميّ (المتوقّف منذ دهرٍ طويل!) للشعب الفلسطينيّ ومؤسساته الوطنيّة، بل لا يكون الواجب واجباً إلاّ كفرض عَيْن، حيث على الجميع أن ينهض بما عليه، أعني بما يرتّبه عليه التكليف السياسيّ والشرعيّ. غيرُ ذلك تقاعسٌ وتحلُّلٌ من المسؤوليّة و، بالتالي، مشاركةٌ في استمرار فصول المأساة، وإعلانٌ صريح عن بطلان شرعيّة التمثيل وتقلُّد المسؤوليّة من كل متقاعس، ومن أيّ موقع: حكوميّ أو حزبيّ أو نقابيّ أو حقوقيّ أو ثقافيّ.. إلخ.
لقد أهلكتِ الزّرْع والضّرْع، في الحياة السياسيّة والعامّة العربيّة، تلك المقولةُ النكراء التي تفيد بأنّ القضيّة الفلسطينيّة قضيّة الفلسطينيين، وأنّ قصارى ما نملك - نحن العرب والمسلمين - هو أن ندعمهم، وأن لا نزايِد عليهم فنكون فلسطينيين أكثر منهم. وبصرف النظر عن أنّ المقولةَ تلك تعبيرٌ جليٌّ عن سياسات التقاعُس وسياسات التحلُّل من أيّ التزامٍ قوميّ بموجبات الصراع العربيّ - الصهيونيّ، وبصرف النظر عن أنها تنفي أن يكون المشروع الصهيونيّ مشروعاً معادياً للأمّة العربيّة ومغتصِباً لحقوقها، وخطراً دائماً على الأمن القوميّ العربيّ، فإنّ «الدعم العربيّ»، الذي تتحدث عنه، دعمٌ لفظيّ لا يُجاوِز حدود قرارات عربيّة شحيحة وموسميّة أكثرُها رمزيّ! منذ زمنٍ طويل (كانت فيه منظمة التحرير الفلسطينيّة وفصائلها الثوريّة المسلّحة تتلقّى دعماً بالسلاح، من مصر الناصريّة والعراق وليبيا والجزائر، ودعماً ماليّاً من العراق وليبيا ودول الخليج العربيّة)، انتهى الدّعم العسكريّ من أيّ مصدر عربيّ، وتناقَصَ الدّعم الماليّ إلى أنِ انقرض ، ولم يَبْق من ذلك «الدّعم» غير ألفاظ لا معانيَ لها في الواقع العمليّ، بل كثيراً ما تُنْسَى بعد تدبيج بياناتٍ بها مباشرةً! ومع ذلك، فإنّ الذي لا تُدركه السياسة الرسميّة العربيّة أنها سوف تدفع ثمن تقاعُسِها وتحلُّلها غالياً. أمّا إذا كانت تعتقد العكس، فإنّها تخطئ قراءةَ التاريخ.
وشأنُ الأحزاب والنقابات والحركات الاجتماعيّة العربيّة شأن الأنظمة والحكومات العربيّة: الغرق في العجز والتقاعُس! صحيحٌ أنّ بعضَها القليلَ يبدو أكثر حيويّةً والتزاماً من النظام الرسميّ العربيّ، وأحرَصَ من ذلك النظام المشلول على حفظ ماء الوجه، فتَرى ذلك البعضَ - من الأحزاب والقوى - يقيم المهرجانات أو ينظّم المسيرات والتظاهرات والوقفات الاحتجاجيّة تعبيراً منه عن التزامه قضيّة فلسطين وحقوق شعبها وحقوق الأمّة فيها. غير أنّه، هو نفسُه، لا يجاوز نطاق العمل النضاليّ الموسميّ، فيما لا تحضُر القضيّةُ في يوميّاته السياسيّة والاجتماعيّة، ولا ينهض بالحدّ الأدنى من أدواره في توعية المجتمع وتعبئته لممارسة حقّه في النضال من أجل فلسطين.