كريستيان كارل

نعيش الآن في عالم تعمّه الفوضى. وقد أصبحت الحروب تزهق أرواح المدنيين الأبرياء من دون حساب. ويحدث هذا في وقت يعمل فيه بعض القادة الشعبويين على تقويض ما تبقى في العالم من الأسس والمعايير الديمقراطية، واستخدام الخطاب المنحرف، غير المتوازن بكل المقاييس.

ولا شك أن ما حدث خلال عام 2017 في ميانمار (بورما سابقاً) مرعب ومخيف. ففي شهر أغسطس، وخلال بضع هجمات انتقامية صغيرة نفذها متمردون ينتمون لأقلية الروهينجا المسلمة، أطلقت القيادة العسكرية البورمية سلسلة من العمليات العسكرية الهجومية الوحشية على مجتمع الروهينجا بأكمله، ومارست كل عمليات الحرق والقتل بحقهم من أجل هدف واضح هو إكراههم على النزوح من الوطن الذي ينتمون إليه إلى بنجلادش.

ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، بلغ عدد النازحين أكثر من 700 ألف، باتوا لا يمتلكون أي مقوّمات لمواصلة العيش، فضلاً عما تعرّضوا له من ممارسات مشينة وغير أخلاقية بما في ذلك الاغتصاب وقتل الأطفال والتدمير الكامل لقراهم وممتلكاتهم. ومما يزيد الأحياء الناجين من هذه الكارثة أسى على أساهم إدراكهم التام أن الرعب الذي عاشوه كان مبرمجاً ومخططاً بدقة، وفقاً لتقرير جديد صادر عن المنظمة العالمية لحقوق الإنسان.

ويمكنك أن تتخيل الآن ما يعنيه أن تقوم مؤسسة حكومية في القرن الحادي والعشرين، وعن سابق عمد وإصرار، بإبادة وترحيل مجموعة إثنية كاملة من الوطن الذي تعيش فيه. ولعل من أكثر الجوانب إثارة للاستغراب في هذا الكابوس أن المرأة التي كانت تجسّد أسمى معاني البطولة والشجاعة في انتصارها للمثل الديمقراطية، وتدعى «أونج سان سوكي»، التي أصبحت رئيسة لدولة ميانمار، هي المتهمة بالتخلي عن أطروحاتها المثالية السابقة، والتورط في هذه القضية على رغم ما حظيت به من تكريم عالمي في الماضي.

وإن كنا نتوقع مسبقاً أن يكون الرئيس ترامب متقاعساً، وأن يمارس زعماء سلطويون آخرون مثل هذه الأعمال الكارثية ضد شعوبهم، فلم نكن لنتصور أن تقوم بهذه الأفعال امرأة حائزة على جائزة نوبل للسلام، وقد تصرفت وكأنه لا حول لها ولا قوة إزاء هذه الجرائم التي بلغت حدّ الترحيل القسري لمجتمع كامل عن وطنه الأصلي. وقد سارع المعلقون إلى انتقادها بسبب صمتها عن عملية تطهير عرقي موصوفة كهذه. إلا أن هذه التهمة غير دقيقة أبداً لأن الأمر يتجاوز التزامها الصمت بسبب دفاعها العلني عن الجرائم التي ارتكبتها القيادة العسكرية، وتجاهلها التام للجرائم الفظيعة التي كانت تُقترف. وكثيراً ما وصفت «سوكي» تلك الجرائم بأنها ليست إلا سلسلة من «الأخبار الملفقة». وفي عام 2016، عندما أطلق الجيش سلسلة من «عمليات التطهير العرقي» صدر عن مكتبها بيان لتكذيب الروايات التي ذكرتها مسلمات من الروهينجا حول تعرضهن للاغتصاب الوحشي من طرف الجنود، وهاجم البيان الأخبار حول حدوث الاغتصاب ووصفها بأنها «كاذبة». وخلال الشهر الماضي، رفضت أيضاً الانتقادات الأجنبية حول الممارسات الوحشية التي يقترفها الجيش البورمي حيث قالت إنه: «لا يمكن لأحد أن يتفهم الوضع في بلدنا مثلما يمكننا نحن أن نتفهمه».

ويزعم المدافعون عن «سوكي» أن الدستور الحالي لدولة ميانمار لا يمنحها حق التدخل فيما يفعله الجيش، إلا أن هذا الزعم يتجاهل السلطات الحقيقية التي تمتلكها هي كرئيسة للدولة. وعندما حاولت الأمم المتحدة إرسال أعضاء فريق للتحقيق في تلك التهم، والاطلاع على الجرائم التي تعرض لها المسلمون الروهينجا خلال الصيف الماضي وخاصة منها حملة التطهير العرقي، رفضت «سوكي» منحهم تأشيرات الدخول باعتبارها تشغل أيضاً منصب وزيرة الخارجية فضلاً عن كونها رئيسة الدولة.

وكان يبدو للوهلة الأولى وكأن «نضالها الطويل لتحقيق الحرية» قد منحها سلطة أخلاقية لا يمكن لأحد أن يتحداها، إلا أنها فشلت في استخدامها وانحرفت عن أخلاقياتها. وخلال شهر سبتمبر الماضي، عندما بلغت حملة التطهير العرقي أوجها، ألقت خطاباً زعمت فيه أن «أكثر من 50 في المئة من قرى المسلمين لم يمسسها أي أذى». ولكنها لم تقل شيئاً عن مصير الخمسين في المئة الأخرى من القرى -وسكانها- وقد أبيدت عن آخرها. وزعمت أيضاً أن حملة التطهير العرقي تراجعت كثيراً إلا أن مئات الآلاف من الروهينجا نزحوا عن قراهم بعد إطلاق مزاعمها تلك.

ومن هنا فإن على المجتمع الدولي أن يثبت الآن أنه غير متخاذل أو متواطئ في وقوع هذه الكارثة الإنسانية. وعلينا أن نفهم كيف سمحنا بحدوثها أصلاً، وكيف يمكننا أن نحاسب المسؤولين عنها؟

* محلل سياسي أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سرفيس»