فوزي زيدان 

الصدمة الإيجابية التي أرادها سعد الحريري من استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية أدت إلى مراجعة «حزب الله» وحلفائه مواقفهم المتناغمة مع محور طهران والمناوئة للمحور العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية. وكانت نتيجة المراجعة عودة الحريري عن استقالته بعد التزام الحكومة اللبنانية بجميع مكوّناتها بمن فيهم «حزب الله» سياسة النأي بالنفس عن أيّ نزاعات أو صراعات أو حروب أو عن الشؤون الداخلية للدول العربية، حفاظاً على علاقات لبنان السياسية والاقتصادية مع أشقائه العرب، وتجديد تمسّك لبنان باتفاق الطائف.

وأدّى تراجع الحريري عن استقالته إلى تجديد التسوية الرئاسية التي ارتضى بموجبها الحريري انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وإراحته بمراعاة «حزب الله» مبدأ النأي بالنفس حيال الأزمات الإقليمية، والتبرؤ علانية من الانغماس في الساحة اليمنية، ووقف ضغوطه وضغوط حلفائه على الحكومة من أجل تطبيع العلاقات اللبنانية- السورية لتعويم نظام بشار الأسد والدفع بلبنان أكثر نحو محور دمشق- طهران. وتأتي موافقة الحزب على النأي بنفسه عن أزمات المنطقة وخصوصاً عن الأزمة اليمنية، نتيجة ما قد تحدثه استقالة الحريري من تداعيات سلبية على الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والنقدي في لبنان، والضغوط التي مارسها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باسم المجموعة الدولية لدعم لبنان على أصحاب الشأن في بيروت، وعدم رغبة الحزب في وضع نفسه في عين عاصفة المواقف الدولية التي لم تذكره بالاسم، كذلك في قرار مجلس الوزراء اللبناني الذي تحدث عن المبدأ من دون أن يضع الحزب في موقع الاتهام.

ويعتبر إصرار المجموعة الدولية، التي اجتمعت قبل أسابيع في باريس، على تضمين بيانها القرار 1701 والقرار 1559 الذي لا يزال تنفيذه عالقاً منذ إقراره في أيلول (سبتمبر) 2004 ويطالب بسحب سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، في مضمون الشروط التي لا تزال تطلبها من لبنان. كما أنّ إعلانها بأنّ الجيش اللبناني هو القوات المسلحة الوحيدة وفق اتفاق الطائف، هو بمثابة رفض لأيّ سلاح غير سلاح الدولة اللبنانية، وإسقاط لثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة». وهذا ما يدفعنا إلى المطالبة بعودة الحوار الداخلي حول الاستراتيجية الدفاعية، وبعدم الركون فقط إلى المعالجات الدولية لسلاح الحزب بصفته سلاحاً إقليمياً، من أجل التوصل إلى قواسم مشتركة تؤدي إلى استيعاب سلاح الحزب وقدراته، وتعزز الاستقرار والوحدة الوطنية.

وعاد الحريري من باريس بدعم استثنائي له شخصياً ولعودته لرئاسة الحكومة على أساس أنه «يمثــّل شريكاً رئيساً لصون وحدة لبنان واستقراره». والحفاوة التي حظي بها هناك تظهر أنّ عودته هـي استثمار من المجموعة الدولية فــــي مستقبل لبنان واستقراره، على أســاس الضمانات التي شكّلها وتعهد من موقعه بالتزامها وتنفيذها.

كما عاد أكثر قوة وحيوية بعد الأزمة، وأصبح الجميع يريد حمايته وعدم إضعافه، إذ لا بديل منه في الوقت الراهن. وأكثر الذين يدافعون عنه اليوم هم الذين كانوا السبب في استقالته، إذ لو احترموا بنود التسوية السياسية لما كانوا في حاجة إلى ادعاء الدفاع عنه وعن مركز رئاسة الحكومة. فقد كان هناك، بعيداً من الحريري، حكومة داخل الحكومة يديرها «حزب الله» بالتكافل والتضامن مع رئيس الجمهورية، تأخذ القرارات في الخارج، وتدير سياسة لبنان الخارجية على هواها، وتدفع العرب إلى استعداء لبنان، بفعل التهديدات اليومية على الشاشات لأنظمتهم وقياداتهم.

ونأمل بأن يكون الوضع بعد قرار النأي بالنفس مختلفاً عما كان عليه من قبل، وبأن يلتزم «حزب الله» القرار التزاماً كاملاً، الأمر الذي يريح الأوضاع الداخلية ويفعّل أعمال الحكومة ويبعد الأذى والضرر عن دول الخليج الشقيقة. لكن تجاربنا مع الحزب مخيبة، إذ عودنا على عدم التزامه بما يكون قد وافق عليه من قبل، مثل إعلان بعبدا وقرارات الحوار الوطني، وتطبيقه القرارات على هواه وبناء لمصالحه ومصالح طهران التي يرتبط بها ارتباطاً وثيقاً ويعتبر ذراعها العسكرية في تنفيذ سياستها التوسعية في الإقليم. وتشير تحركات الحزب وممارساته إلى وقوعها خارج التفاهمات اللفظية والمكتوبة، فقبل أن يجفّ حبر بياني الحكومة اللبنانية ومجموعة الدعم الدولية كان تصريح نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم الذي جدّد فيه من طهران هجومه على السعودية، وجولة قائد ميليشيا «عصائب أهل الحق» العراقية قيس الخزعلي التي نظمها الحزب على بلدات حدودية جنوبية حيث أطلق وهو يرتدي البزة العسكرية مواقف تشير إلى استعداد للدعم ضد إسرائيل، ما تعتبر الجولة رسالة إيرانية للداخل والخارج بأنّ الجنوب هو ورقة بيد طهران لن تتورع عن استخدامه للدفاع عن مصالحها، وتحدياً موصوفاً للدولة اللبنانية المتعهدة تنفيذ القرار 1701، والهجوم على السعودية في التظاهرة التي نظمها الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت تنديداً بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

عززت الاستقالة وما تضمنته من أسباب موجبة دور الحريري الوطني وزادت من شعبيته التي تعرضت للهبوط في الفترة الأخيرة، وعليه العمل على إثبات حضوره في الانتخابات النيابية المقبلة التي ستجرى في أيار (مايو) 2018 مستفيداً من المناخات الداخلية التي احتضنته من أجل تحقيق نتائج جيدة فيها، يثبت أنه فعلاً الأول والأقوى عند السنّة ولا أحد ينافسه، وبذلك يحجز مكانه في رئاسة الحكومة المقبلة. ولكن كي يحقق ما يصبو إليه، عليه أن يعيد النظر في أسلوبه في الحكم فيمارس صلاحياته كاملة ولا يدع مجالاً لأيّ كان بالتعدي عليها، كما كان يحصل، ويبتعد من تقديم التنازلات التي تنال من رصيده السياسي وتضعف موقع رئاسة مجلس الوزراء ومكانة الطائفة السنيّة الذي يعود إليها الموقع. كما عليه أن يكون أكثر انفتاحاً على قاعدته وعلى النخب في الطائفة السنّية، وأن تكون قراراته منسجمة مع مواقف الطائفة وتطلعاتها.

والسؤال: هل تعتبر موافقة «حزب الله» على النأي بالنفس موافقة ظرفية وموقتة، نتيجة الظروف الداخلية والإقليمية والدولية الضاغطة، بحيث يعود عنها إذا طلبت منه طهران ذلك أو تعرض لبنان والمنطقة إلى عواصف سياسية، أم أنها ثابتة ودائمة؟ والسؤال الآخر: هل يعود الحريري إلى الاستقالة إذا تفاعلت التطورات والأحداث والانتهاكات وتلاشت سياسة النأي بالنفس؟ الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة على هذه الهواجس.