أحمد يوسف أحمد 

أثار القرار الخطير للرئيس الأمريكى بخصوص القدس تداعيات واسعة على الصعيدين الشعبى والرسمى فلسطينياً وعربياً فما حصاد هذا كله؟ تبدو أهمية السؤال من أن البعض يصدر أحكاماً قاسية على هذا الحصاد ويعتبره جعجعة بلا طحن،

ومن الحقيقى أن ثمرة ردود فعل القرار الأمريكى لم تُفض إلى أى تراجع عنه غير أنه من غير الحقيقى أنها ليست والعدم سواء، وأول ما يمكن الإشارة إليه أن القرار قد حسم التردد الفلسطينى حول مسار التسوية المشوه منذ اتفاقية أوسلو، إذ أنه عبر حوالى ربع قرن من المفاوضات أو بالأحرى المماطلات الإسرائيلية لم ينجم أى تقدم حقيقى على صعيد تسوية قضايا الوضع النهائى وفى القلب منها القدس، وقد أعلن الرئيس الفلسطينى بوضوح أن مرحلة الانخداع بدور أمريكى فى عملية التسوية قد ولت، وكيف لا وقد تجاوزت الإدارة الأمريكية الانحياز السافر لإسرائيل إلى تهديد دول العالم بقطع المساعدات عنها إن لم تحذ حذو القرار الأمريكى، غير أن هذا الموقف الحازم باعتبار الدور الأمريكى فى التسوية منتهياً يجب ألا ينسينا أننا مطالبون بالبحث عن بديل له وهذه هى المعضلة لأن الولايات المتحدة هى القوة الوحيدة القادرة على الضغط بفاعلية على إسرائيل، أما القوى الدولية الأخرى كالاتحاد الأوروبى فهى راغبة فى الضغط من أجل تسوية لكنها غير قادرة على ذلك خاصة فى ظل الدعم الأمريكى المطلق لإسرائيل، وفى مواجهة هذه المعضلة يجب أن يكون واضحاً أن مفتاح المواجهة بيد الفلسطينيين من أجل تحسين ميزان القوى مع إسرائيل بحيث يشعر الشعب الإسرائيلى بأن سياسات حكومته أصبحت ذات تكلفة عالية ويضغط لتغييرها.

ويستخف البعض بهذا الكلام ويقولون أن للشعب الفلسطينى أن يواجه إسرائيل وحده، والواقع أن خبرة حركات التحرر الوطنى المعاصرة تفيد بذلك وهو أنها استطاعت رغم الصعوبات الهائلة أن تستخلص استقلالها من المحتل، ولم يتحقق انتصارها دائماً بالسلاح وإنما تنوعت أساليب النضال فشملت النضال المدنى، وإذا كان نيلسون مانديلا قد بدأ نضاله لتصفية النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا عسكرياً فإن هذه العملية التاريخية أُنجزت فى النهاية بفعل نضال مدنى رفيع أوصل حكم الأقلية البيضاء إلى الاقتناع باستحالة استمرار معادلة التمييز العنصرى وأصبحت القضية بالنسبة للبيض هى كيف يحافظون على امتيازاتهم فى ظل حكم الأغلبية السوداء، بل إن غاندى قد حرر الهند بالنضال السلمى الذى انصب على حرمان المشروع الاستعمارى من عوائده بمقاطعة بضائعه على سبيل المثال، والحقيقة أن نضال الشعب الفلسطينى ليس بعيداً عن هذه الخبرات، فقد جرب الكفاح المسلح لكنه أبدع فى الوقت نفسه أساليب للنضال كانت لها ثمرتها وإن لم تكتمل، وأُذَكر هنا بأن انتفاضة الحجارة التى دامت سنوات من أواخر 1987 قد أفضت إلى اتفاقية أوسلو التى رغم سوءاتها اعترفت إسرائيل بموجبها بالشعب الفلسطينى وبمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة له بعد المقولة الشهيرة «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب» وبعد أن كانت «منظمة التحرير الفلسطينية» منظمة إرهابية أصبحت شريكة لإسرائيل فى عملية سياسية، كما نذكر أن انتفاضة الأقصى التى بدأت فى أواخر سبتمبر 2000 قد أجبرت إسرائيل على الانسحاب من غزة فى 2005 وتفكيك المستوطنات المحيطة بها فى سابقة هى الأولى من نوعها فالفلسطينيون إذن أصحاب خبرة رائدة فى التحرر الوطنى غير أن ما ينقصهم الآن بعد أن تبنوا رسمياً الموقف الواجب من قرار ترامب أن يُتموا عملية المصالحة الوطنية دون أى التباسات وأن يعضوا عليها بالنواجز كنقطة انطلاق لوضع استراتيجية وطنية ذات أهداف وأساليب محددة تُحسن وضعهم الاستراتيجى بحيث يتم التقدم نحو تسوية مقبولة.

ومن المهم أن يكون هناك ظهير عربى لأى تحرك فلسطينى، وقد أشرت فى مقالة سابقة إلى القيود الواردة على المواقف العربية بحيث لا نتصور إجراءات عقابية تجاه الولايات المتحدة، ومع ذلك فقد كان هناك تحرك دبلوماسى عربى تمثل أولاً فى مشروع القرار المصرى المقدم لمجلس الأمن والذى تشنج البعض فى انتقاده لاعتداله، والحقيقة أن هؤلاء المنتقدين ليسوا على بينة من آليات التحرك الدبلوماسى فهل كان الأفضل أن يقدم مشروع قرار حاد ترفضه الأغلبية أم مشروع القرار المعتدل الذى أجمع عليه أعضاء المجلس عدا الولايات المتحدة؟ وهنا يرد المنتقدون بالقول بأن القرار لم يمر من المجلس رغم هذا الاعتدال فماذا كسبنا؟ وقد يكون هذا المنطق صحيحاً قانونياً لكنه بالتأكيد ليس صحيحاً سياسياً، فهل يمكن لعاقل أن ينكر معنى أن تُعزَل الولايات المتحدة فى موقفها من قضية القدس؟

وإذا لم يكن لهذا أى تأثير فلماذا لجأت الإدارة الأمريكية للتهديد الفج وغير المسبوق قبيل التصويت على مشروع القرار ذى الصلة فى الجمعية العامة للأمم المتحدة والذى وافقت عليه 128 دولة رغم فجاجة التهديد ولم تستجب للأوامر الأمريكية سوى سبع دول منها دول لم يُسمع البعض عنها من قبل كميكرونيزيا وناورو وبالاو وهو الأمر الذى ألحق بلا جدال ضرراً بليغاً بالمكانة الأمريكية فى الساحة الدولية، وأخيراً أقترح على الحكومات العربية طالما أنه ليس بمقدورها اتخاذ أى خطوات عقابية تجاه الولايات المتحدة أن تحاصر الدبلوماسية الأمريكية فى محاولة للاستفادة من تلميحات رجالها إلى أن ترامب اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل لكنه لم يحدد حدودها، ولنعزف على هذه النغمة طالما أنهم يرددونها فنقول لهم إذن فإن ترامب قد اعترف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل أما الشرقية فهى عاصمة للدولة الفلسطينية وهو ما يطابق الرؤية الروسية ويتسق مع الموقف العربى الذى جسدته المبادرة التى صدقت عليها قمة بيروت 2002.