عيد بن مسعود الجهني


لا أظن أن هناك أسفينا أسوأ ولا أخطر ولا أخبث ولا أعمق أثرا من (وعد بلفور) اللعين، الذي صدر في 2 نوفمبر 1917م ليكون ذلك يوما أسود في تاريخ فلسطين، وضربة قاصمة للعدالة والشرعية الدولية والقانون الدولي والأعراف الدولية.

وما بين 1917م تاريخ صدور الوعد وعام 1947م عام التقسيم استطاع اليهود تحويل ورقة (صغيرة) خطط لها وايزمان وتلقفها بلفور لتتبناها دولته (بقوتها) لتفرضها على شعب وأرضه لاتملك فيه حقا قانونيا، وتحقق حلم اليهود بإقامة إسرائيل عام 1948 لتصبح أول دولة في التاريخ الإنساني تنشأ على أرض الغير.

وبعد مولد الجنين الخبيث اعترفت به أمريكا في عهد ترومان بعد (11) دقيقة من إعلان التأسيس ووضعت يدها بيد بريطانيا واستطاعت الدولتان الظالمتان ضمان استمرار وجود دولة باسم (إسرائيل) وفرنسا من جانبها لم تتخل عن الركب فقد سارعت إلى الدعم فقدمت ضمانها لمشروع إسرائيل النووي.

وبعد مرور 100 عام على وعد بلفور وتأسيس هذا الكيان العنصري في قلب الأرض العربية إبتلع معظم الأراضي الفلسطينية وبعض الأراضي العربية وشن عليهم عدة حروب مدمرة.

وفي ظل ضعف عربي وإسلامي وتشتت وتفرق وانكسار، وحالة من الخوار والتمزق وصراع فلسطيني - فلسطيني على سلطة مفقودة، وخروج دول عربية بعد ثورات عديدة من منظومة الأمن القومي العربي، كالعراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال وموجات من الإرهاب الأسود والتمدد الإيراني و(قوة) شوكة الدولة العبرية مدعومة بلا حدود أمريكيا وغربيا ورفع قانون الغاب رأسه عاليا في ظل غياب مطبق للعدالة والشرعية الدولية وبروز لغة (القوة).

هنا ظهر الرئيس الأمريكي الـ(45) ليعلن من البيت الأبيض أن القدس الشريف عاصمة أبدية للدولة العبرية، وهو لا يملك فيها ذرة رمل.

هذه جريمة دولية كبرى يرتكبها السيد ترامب ضد المسلمين والمسيحيين وكل الأديان السماوية الثلاث وضد مبادىء القانون الدولي المتعارف عليها وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وما أكثرها واتفاقيات جنيف الأربع.

قراره الأسود يمثل تجسيدا للفكرة العنصرية المعادية للشعوب المستمدة من تعاليم التلمود ثم تليها في المرتبة مبادئ الحركة الصهيونية كما قننها هيرتزل وجاكوبنسكي ولانداد وطبقها حاييم وايزمان وبن جوريون ومناحيم بيجن وجولدمائير وبيريز وشامير وأولمرت ونتنياهو وكل الجزارين اليهود.

ولا نذكر القدس الشريف إلا ويبرز يوم 21 أغسطس 1969م كيوم أسود في تاريخ المدينة المقدسة والعرب والمسلمين والمسيحيين، عندما أقدمت إسرائيل على ارتكاب جريمة بشعة، فدبرت محاولة إحراقه، ليمثل ذلك اليوم الحزين كارثة في حق المسجد الأقصى والمسلمين والمسيحيين.

تلك الحادثة أكدت مدى عنصرية اليهود وحقدهم وأنه لا أمان لليهود ولا نهاية لأحقادهم وخبثهم ومكائدهم.
والمتتبع للسياسة الإسرائيلية تجاه القدس منذ احتلاله عام 1967م ومحاولة حرقه عام 1969م يتضح له أن الدولة العبرية اعتبرت المدينة المقدسة عاصمة أبدية لها، وجاء وعد بلفور جديد لعين بمنحها ذلك الحق المستند على قانون الغاب، ليدعم سيطرة اليهود على نسبة تصل إلى أكثر من 86 في المئة من مساحة القدس الشرقية، والتخلص من السكان الفلسطينيين أصحاب الحق الأصليين.
مدينة القدس التي اعتبرتها إسرائيل عاصمة أبدية ودائمة لها وأيدتها في ذلك الولايات المتحدة بقرار الكونجرس الأمريكي بتاريخ 28 سبتمبر 2002م وأكد ذلك ترامب بقراره المشؤوم يوم الأربعاء الأسود 6 ديسمبر 2017م بنقل سفارة بلاده إلى القدس، هذا يؤكد الدعم الأمريكي السافر لخطط إسرائيل لتهويد القدس.

إن ما صدر من قرارات عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن كلها تدعم الموقف العربي والإسلامي بشأن احتلال القدس وتهويده واعتباره عاصمة لإسرائيل، وإعلان ترمب قراره منح القدس عاصمة لليهود، يعد جريمة قانونية دولية جسيمة، وتعتبر كل إجراءات الدولة العبرية والوعد البلفوري الشيطاني الجديد باطلة بطلانا مطلقا.

مجلس الأمن والأمم المتحدة صدر عنهما قرارات عدة منها قرار المجلس رقم 478 (1980) الذي أكد فيه أن قانون الكنيست الإسرائيلي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل هو قرار باطل ولا يترتب عليه أي أثر قانوني وأنه على كل الدول الالتزام بعدم نقل بعثاتها الدبلوماسية إلى القدس. وكذلك القرارات 452 لعام 1979 و476 (1980) و478 (1980) كما أن سياسة الاستيطان العنصرية التي تقوم بها إسرائيل تعتبر باطلة بطلانا مطلقا بموجب قرارات مجلس الأمن رقم 446 (1979)، 465 (1980)، 497 (1981)، 592 (1986) وغيرها من القرارات التي نصت على تحريم وتجريم الاستيطان الإسرائيلي في كل الأراضي الفلسطينية، وبطلان كل قرارات إسرائيل باعتبار القدس عاصمة لها.

ورغم هذا البغض الدفين والحقد الأسود ستبقى مدينة القدس في قلوب المسلمين ووجدانهم، فهي قبلتهم الأولى، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معراجه إلى السماء، وبها المسجد الأقصى الذي تضاعف فيه الصلاة، وتشد له الرحال، وسوف تعود القدس إلى أهلها وستبقى عاصمة إسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مهما طال الزمن ولن تبقى تحت سيطرة الاحتلال إلى الأبد.

وإذا كانت القدس عاصمة عربية المنشأ يعود تاريخها إلى حوالي 5200 عام عندما شيدها العرب فإنها قد أصبحت منذ فتحها في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة إسلامية عربية، والمسلمين طوال القرون العديدة التي حكموا فيها بلاد الشام وفلسطين لم يعرف عنهم أنهم منعوا يهوديا أو مسيحيا من الوصول إلى مقدساتهم في أي مكان بما في ذلك المسجد الأقصى، ولكن اليهود منذ أن إستولوا على القدس دأبوا على وضع كل العراقيل أمام المسلمين والمسيحيين لمنعهم من الوصول إلى مقدساتهم.
إن السكوت المخجل من قبل العرب والمسلمين على ماحدث ويحدث في القدس قبل وبعد إعلان ترامب الشنيع الذي يعتبر دعما للباطل ضد الحق وقصره على الشجب والتنديد والإستنكار بالسياسات الإسرائيلية والأمريكية، لا يمكن تبريره.

التاريخ لن يغفره، وترك الشعب الفلسطيني من سكان القدس وغيرها من أرض فلسطين هكذا في الميدان وحده يتعرض لبطش إسرائيل وماما أمريكا وجبروتها وآلتها الحربية الفتاكة، رغم القوة البشرية الضخمة للمسلمين والعرب، وقدراتهم المادية الهائلة التي تمكنهم من بناء جيوش قوية رادعة شيء لا يقبله عقل ولا ضمير.

وإذا كانت الصهيونية جولدمائير هي وعصابتها وهم يحرقون المسجد الأقصى عام 1969 لم تنم طوال الليل ظنا منها أنها قد تصحى صباحا لتجد جيوش العرب وقد هجمت عليها من كل حدب وصوب، ولأن العرب والمسلمين لم ينتفضوا يومها (قوة) وإن كان قد شاط غضبهم، فإنهم اليوم أمام التاريخ لحماية مقدساتهم.

وعلى الأقل فإن دراسة التخلي عن إتفاقيات أوسلو وما تلاها أمرا هاما بعد أن تأكد لهم حقيقة تنكر الوسيط الذي أعتبر نزيها لعقود عديدة، وهذا يحمل سببه فخيار السلام اغتالته إسرائيل والوسيط غير النزيه.

إنه من الواجب على المنظمات الإسلامية والعربية وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ولجنة القدس والمجموعة العربية في الأمم المتحدة بذل الجهود ومخاطبة الإدارة الأمريكية للعدول عن قرارها وإلا واجهت مواقف عربية وإسلامية موحدة، ومخاطبة الاتحاد الأوربي والصين وروسيا والهند ودول العالم التي ترفض قرارات إسرائيل وقرار ترامب الذي رفضه مجلس الأمن باليوم التالي لإعلانه وتنديد أمين عام الأمم المتحدة به لشرح الحق العربي - الإسلامي العادل.

وعلى الجانب الآخر طرح خيار الاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف أمام دول المنظمة الدولية لتعثر مسيرة السلام التي بدأت منذ أوسلو لتصبح المبادرة العربية للسلام بكل شروطها الأساسية والتي تنص على أن القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية بحدودها قبل عام 1967، التي قدمتها المملكة وأقرتها قمة بيروت العربية عام 2002 بالإجماع خيارا وحيدا للسلام مع الكيان الصهيوني.