عبدالله العوضي

قبل الدخول إلى هذا الباب في زمن الإرهاب الصعب، لا بد من الإقرار بأن الإسلام هو دين الاعتدال الشامل من دون كافة الأديان السماوية والأرضية. هذه الحقيقة مهمة حتى يمكن لنا تجنب أو الوقوع في براثن التفاصيل الشيطانية، وهي السلاح الوحيد في دحر الإرهاب والتطرف والتشدد والتزمت. والاعتدال هو المشروع الأوحد في مواجهة كل تلك الموجات المنحرفة التي تستغل الإسلام الحنيف.

فالإسلام المعتدل، ليس مشروعاً فردياً ولا جماعياً، بل مشروع أمة بأكملها عربها وأعاجمها، وهو النهج الذي يربط وحدتها ويوثقه حبل مودتها، فإذا اشتكى منها تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

هذا المطلب المهم أصبح هدفاً بعيد المدى لبعض الدول العربية والإسلامية، لأنها شعرت وتأثرت بممارسات بعض التيارات الإسلامية الجانحة نحو أقصى اليمين المتطرف، كما هو في الغرب.
الخطورة في ذلك تكمن بأن أصحاب التوجه اليميني من التيارات المؤدلجة يستهدفون وجود أوطان آمنة تحت مظلة مشاريع مستقبلية، أوطان تنهض بالأمة جمعاء وليس وطناً ما بذاته.

ومع تقادم الزمن وعلو غباره على صفاء هذا الدين السمح، جاء الوقت المناسب لإعادة النظر في كثير من المفاهيم والمصطلحات التي سادت باسم الإسلام في العصور السالفة، لكي يأتي البعض المتحمس للتطرف لإحيائها معاً في هذا الزمن الذي لا يشبه أمسه القريب، فضلاً عن ماضيه البعيد.

أول قائد للبشرية أدار يوميات هذا الإسلام في اعتداله هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الأولين وخاتم النبيين بإجماع أهل الدين من كافة المذاهب والطوائف، حتى التي ضل بها السبيل مع توالي العصور.

فلو قرأنا سيرة المصطفى بكل تجرد وبعد عن التفسيرات الشامخة وكذلك الجامحة، نجده كان فرداً في هذه الأمة، ولم يكن يشعر القاصي والداني بأنه النبي الأمي ورحمة الله للعالمين من إنسه وجنه وشجره ومدره. تمر عليه جنازة يهودي وهو جالس، فيقوم لها، فيعترض البعض وهم ليسوا أي بعض، بل من خلص الأصحاب، فيرد عليه الصلاة والسلام، «أليست نفساً منفوسة».

لقد وُضع المصطفى أكثر من مرة محل اختبار لدى اليهود مرة عندما رهن درعه لديهم، وأخرى عندما زار مريضاً لهم، ففي كل مرة يرتقي عليهم ويدخل البعض دينه طواعية من غير إكراه إلا من آثر خلقه القرآني وسيرته الربانية.

بدأت أمثلتي باليهود لأن هناك لغطاً شديداً في الساحة السياسية، والحساسية الزائدة في التعامل مع اليهود كبقية شعوب الأرض، ومع إسرائيل كدولة محتلة لفلسطين القلب النابض للعالم وليس للمسلمين فقط.

وعندما نفض الاشتباك بين الأمرين نعرف كيف نسير قطار إسلام الاعتدال مع اليهود، مثل غيرهم من الأمم كافة دون عنصرية ماحقة، ولا كراهية ساحقة، ولا تمييز مقيت. فهذا الإسلام المعتدل في أحكامه وتوجهاته وإرشاداته وأخلاقياته حكم العالم كله آنذاك في مدة قياسية لم تتجاوز ربع القرن من عمر الزمن.

ومن بعد العصور الأربعة، جاء عصر الملك العضوض بتولي معاوية رضي الله عنه الخلافة، وهو في الحقيقة قد دشّن أول ملكية في التاريخ الإسلامي، إنه معاوية كاتب الوحي الذي واجه بدايات التشدد الإسلامي الفردي مع الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري الذي كان كثير الانتقاد له حتى نفاه إلى «الربذة»، وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه «ستموت وحيداً وتدفن وحيداً وتحشر وحدك».

هذا في الشأن الخاص، أما الشأن العام فقد كان اليهود أكثر الناس مدحاً لمعاوية وهم الذين قالوا عنه «رحم الله أبا يزيد، فقد كان يعاملنا بشَعَرته، فإذا شد أرخينا وإذا أرخينا شد علينا».

هل هناك اعتدال أكثر من هذا مع طرفي المعادلة الإسلامية سواء مع أبو ذر رحمه الله، أو مع اليهود الذين كانوا جزءاً من المجتمع الإسلامي.

أما النصارى فلا يخفى على أحد كيف أن ملك الحبشة آنذاك قد احتوى الإسلام وحماه من أعدائه وهم من أهل الرسول وليسوا من الغرباء، حتى إذا جاءه الأجل وجاء للرسول الخبر يصلي عليه المصطفى صلاة الغائب بعد أن علم بإسلامه سراً. «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى».. وهم الآن يحمون الإسلام من المسلمين أنفسهم وفقاً لقوانين الاعتدال الكونية، التي لا تنفصل شيئاً عن عدالة الإسلام المطلقة وهي التي تسع كل الناس، والمسلمون أنفسهم جزء واحد فقط من بقية الأجناس.