خلف الحربي

تعيد المظاهرات التي تشهدها إيران هذه الأيام درسا قديما متجددا في مسيرة الأمم وهو أن الشعوب لا تأكل الهيمنة ويعنيها الرغيف أكثر من عنايتها بالأحلام التوسعية، فما فائدة أن يعيش في إمبراطورية تسيطر على كل ما يحيط بها ما دام الناس فيها لا يجدون قوت يومهم، وأي فائدة يجنيها الإيرانيون من السيطرة على بلدان جريحة مثل سورية والعراق ولبنان واليمن ما دام نصف المواطنين الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر حسب تصريحات رسمية إيرانية؟.

الاتحاد السوفياتي كان أكبر قوة عظمى شهدها التاريخ تمتد خارطته لتشمل قسما هائلا من الكرة الأرضية وتتمدد خريطة حلفائه الخاضعين لسيطرته المباشرة من شرق أوروبا إلى أمريكا اللاتينية، ولكن هذا العملاق النووي الذي كان يرعب العالم أجمع انهار بطريقة مأساوية يصعب تصديقها، لأن الناس في داخله كانوا يعانون من الفقر والخوف والملل، فما فائدة أن تكون عالما نوويا أو رائد فضاء أو بطلا أولمبيا ما دمت غير قادر على شراء ملابس جديدة لأولادك؟.. انهار العملاق السوفياتي في غمضة عين وبدأ يبيع مؤسساته ومفاعلاته النووية وأسراره وكل شيء كي يسد رمق الجائعين.. وما زال الشيوعيون حتى يومنا هذا يفسرون ما حدث بأنه مؤامرة أمريكية.. وهذا جزء صغير من الحقيقة، لأن الجزء الأكبر يتلخص في أن القوة المؤثرة تنبع من الداخل وأن العملاق الجائع لابد أن يسقط في منتصف الطريق مهما ادعى القوة والعنفوان.

حين بدأ السباق النووي بين الهند وباكستان انتشر كاريكاتير غربي يظهر فيه رجل من شبه القارة الهندية ممزق الثياب وعظامه بارزة من الجوع ويرفع لافتة اعتزاز وتحذير كتب عليها: (لدينا قنبلة نووية)، ولكن الهند أدركت أن أحلام الهيمنة لن تطعم شعبها الذي يفوق تعداده المليار فالتفتت إلى الداخل حتى أصبحت واحدة من أهم اقتصادات العالم ورفعت المستوى المعيشي لمواطنيها، والصين أيضا حرصت أن لا ترث الاتحاد السوفياتي بعد سقوطه فتصبح القطب الثاني في مواجهة الولايات المتحدة والغرب، بل استمرت في سياسة القوة العظمى المنكفئة على نفسها وتحولت من الشيوعية الصارمة إلى الاقتصاد المفتوح بأقل الخسائر وها هي اليوم قوة اقتصادية جبارة لا يستغني العالم أجمع عن صادراتها بعد أن كانت في يوم من الأيام مرشحة لمصير أسوأ من مصير الاتحاد السوفياتي.

نعود إلى مظاهرات إيران التي طالب فيها المتظاهرون حكومة الملالي بالخروج من سورية ولبنان وغيرهما من بلدان العرب والالتفات للداخل الإيراني والتي لم تكن الأولى من نوعها لنقول إنها تشير إلى أكبر نقطة ضعف تعاني منها إيران وهي الشعب الجائع في شوارع طهران وأصفهان ومشهد وشيراز الذي لن تشبعه صور قاسم سليماني وهو يتجول في قرى سورية والعراق المدمرة.. وهذا الضعف سوف يشتد كلما ازدادت شهية إيران للتوسع والهيمنة، وبالطبع سوف يقود ذلك إلى تكرار ذات الدرس المرعب الذي غرقت فيه كل الأمم التي أطربها هتاف المحاربين في الخارج فلم تسمع أنين الجائعين في الداخل.