جبريل العبيدي 

الفساد انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة. وله أنواع كثيرة؛ منها الفساد السياسي، المتمثل في إساءة استخدام السلطة العامة لأهداف غير مشروعة، من خلال الرشوة والاختلاس وممارسة الابتزاز والمحسوبية، المتمثلة في الفئوية والحزبية و«الجماعة» والقبلية والجهوية أحياناً، ولهذا قال الله فيه: «ظَهَرَ الفسادُ في البَرِّ والبحرِ بما كَسَبَتْ أيدي الناسِ لِيُذِيقَهُم بعضَ الذي عَمِلوا لَعَلَّهم يَرجِعُون».


الحالة الليبية متفردة؛ بل تكاد تكون ظاهرة عالمية، لأنها وضعت في أعلى المؤشرات الدولية لمتابعة ومراقبة الفساد؛ ومنها «CPI» الذي يصنف دول العالم حسب درجة وجود الفساد بين موظفيها، وغياب الشفافية وحجب الحقائق عن الإعلام وكبت حرية الصحافة. ولعل ليبيا تتصدر قائمة الدول الخمس الأُوَل من حيث الفساد والابتعاد عن الشفافية.
فالفساد في الأصل انتهاك لمبدأ النزاهة، ويظهر في صور كثيرة؛ منها الرشوة وسرقة المال العام والابتزاز وغيرها، فالمشكلة ليست في الفساد فقط، بل في ظهور مناصرين له، فقد أصبح للفساد «أنصار وذرائع»، ومجرمون يَهمُّون لنصرته والدفاع عنه، بل وجعل صاحبه «بطلاً» وطنياً في حال افتضاح أمره، فنجد من لا يتردد في عصر أفكاره ولملمة بعض شهاداته وخبرته لتضليل الرأي العام، والتشكيك في المسلمات والثوابت وقلبها وتبديلها.
ولعل من أسباب انتشار وظهور الفساد، غياب أو ضعف أجهزة الرقابة لدى الدولة، وغياب العمل المؤسسي وثقافة العمل المؤسسي، وضعف أداء الحكومة، وارتهان إرادتها، مما تسبب في عرقلة العمل الرقابي وضعفه، أو عدم تمكين مسؤوليه من ممارسة عملهم بالشكل المطلوب، مما تسبب في ظهور الفساد جراء غياب دور فاعل وجدي للتتبع والعقاب عن أي تجاوزات تحدث. فالفساد من أخطر ما تعانيه دول العالم حتى المستقرة منها، فما بالك بدولة مثل ليبيا، تعاني من ضعف الحكومة أو إضعافها بوجود مراكز قوى موازية أشبه بحكومة ظل، تعرقل عمل الحكومة بشكل فعال.
انتشار الفساد يتسبب بعدم تكافؤ الفرص بين الجميع، بسبب انتشار المحسوبية، وقد ينتهي بالمجتمع إلى حالة من الإحباط والسلبية، بسبب حالة الغبن والظلم، مما يعرقل مشروعات التنمية. وحتى لا يسيطر المنتفعون من الفساد، فلا بد من البدء في معالجة مسببات الفساد، حتى لا يتحول إلى واقع يومي يتعايش معه المجتمع، وينتهي بفساد أخلاقي عام، يقبل الفساد بوصفه ظاهرة مجتمعية لاحقاً.
ترعرُع الفساد في ليبيا وتحوله إلى ظاهرة، جعلا منه واقعاً بين الرشوة والهدية في مفهوم البعض، جراء التباس المفاهيم، أو العجز والقصور الفكري في الفهم، أو الشراكة في الفساد. ولهذا أستغرب محاولة البعض الالتفاف على تجريم الرشوة، بمحاولة التذرع بعدم توافر اشتراطات هذا التجريم، كون المرتشي ليس المكلف بالعمل مثلاً. ومن هنا يبدأ الفساد ينمو ويترعرع ويكبر ويتغول.
التقارير المتتالية والمخيفة من ديوان المحاسبة والرقابة الإدارية تؤكد ارتفاع معدل الإنفاق، وإهدار المال العام ضمن سفريات الحكومات المتنازعة في ليبيا، لدرجة أن وصل حجم إنفاق الحكومة إلى أكثر من ربع مليار دولار... كذلك الإنفاق على الحراسات الخاصة والمرافقين غير الحكوميين، الأمر الذي يعد مؤشراً خطيراً على إهدار المال العام دون ضوابط أو رادع، خصوصاً أن هناك سابقة حكومية من حكومة سابقة بإهدار 5 مليارات دينار مصاريف قرطاسية مكتبية في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 6 ملايين نسمة!
إنفاق الحكومة على المرتبات و«المهايا» والسفر لأعضائها فاق المعقول، وأصبح ظاهرة تتوارثها الحكومات؛ بل وتتنافس عليها، في ظل ضعف الأداء البرلماني في المحاسبة على إهدار المال العام بمصاريف يمكن إغلاق بابها في ظل أزمة اقتصادية بسبب انخفاض صادرات النفط وانخفاض سعره في السوق العالمية والتدني في سعر الدينار أمام العملات الأجنبية بشكل مخيف، مما هدّد المواطن في رغيف العيش وليس العيش الرغيد، كما أوهمه صناع «الربيع العربي»، ففقد المواطن الليبي أمان الوطن وحتى رغيف العيش، وهو القابع على بحيرة نفط ويتنفس الغاز.