باسكال بونيفاس

الشعار الذي رفعه دونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية كان هو «جعل أميركا عظيمة من جديد»؛ ولكن النتيجة، حتى الآن على الأقل، يبدو أنها هي أميركا أكثر عزلة من أي وقت مضى، إذ حتى في 2003، خلال حرب العراق، التي أثارت عاصفة من الاحتجاجات الدولية، كان لدى جورج بوش دعم أكبر مما لدى دونالد ترامب اليوم، والواقع أن قضية التصويت في الأمم المتحدة حول نقل السفارة الأميركية إلى القدس تكتسي دلالات كبيرة، ففي البداية كان ثمة تصويت في مجلس الأمن يندد بهذا النقل الذي ينسف الآمال الضئيلة للسلام في النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، ويتعارض مع قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي.

وقد جاءت نتيجة التصويت دالة ومعبِّرة، إذ أيَّد التنديدَ بنقل السفارة 14 صوتاً مقابل صوت واحد، صوت الولايات المتحدة، وهذا يعني أن حلفاء الولايات المتحدة الغربيين فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا اختاروا النأي بأنفسهم عن واشنطن، والواقع أن هذا ليس فقط غير معتاد بالنسبة لفرنسا، بل نادر الحدوث في حالة المملكة المتحدة (تذكروا حرب العراق)، وعلى النهج نفسه سارت اليابان علماً بأن رئيس وزرائها شينزو آبي من المقربين من دونالد ترامب ويعتمد على الولايات المتحدة في أمن بلاده، وكذلك الحال بالنسبة لأوكرانيا التي تعتمد على دعم واشنطن في صراعها مع روسيا أيضاً، غير أنه بدلاً من أن يفكر في مغزى ودلالات الرسائل التي بُعثت إليه، انخرط دونالد ترامب في المزايدة؛ حيث أشارت سفيرته في الأمم المتحدة نيكي هالي إلى أنها إهانة لن تنساها واشنطن. وقبل إجراء تصويت جديد، أمام الجمعية العامة هذه المرة، مارست الدبلوماسية الأميركية ضغوطاً كثيرة على كل البلدان، بل إن ترامب ذهب إلى حد الإعلان عن أنه لما كانت الولايات المتحدة تخصص مليارات الدولارات للمساعدات، فإنها ستقوم بتوفير تلك الأموال عبر قطع تلك المساعدات عن البلدان التي لا تصوّت وفق ما يريده البيت الأبيض.

وإذا كان التنديد بنقل السفارة الأميركية إلى القدس أقل وضوحاً، فإنه كان جماعياً بالمقابل؛ حيث صوّت 128 بلداً لصالحه، بينما اختارت بلدان أخرى الامتناع عن التصويت أو لم تشارك فيه.

أما البلدان التي صوتت ضد قرار التنديد على غرار الولايات المتحدة، فهي جواتيمالا وهندوراس وجزر مارشال وميكرونيسيا وبالاو وناورو وتوجو. وجميعها بلدان ليست ذات أي أهمية جيوسياسية كبيرة، وجميعها أيضاً تعتمد اعتماداً كبيراً على الولايات المتحدة. أما تصويت توجو ضد قرار التنديد إلى جانب الولايات المتحدة، فيفسَّر بحقيقة أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، هي التي تضمن أمن النظام، وقد زاد هذا التصويت من عزلة الولايات المتحدة؛ ولكن رد الفعل القوي جداً لدونالد ترامب سيكرّسها أكثر.

المستفيدون الرئيسيون من المساعدات الأميركية: أفغانستان والعراق ومصر والأردن صوتوا ضد القرار الأميركي؛ ولكن أهميتهم الاستراتيجية ستحول، بكل وضوح، دون تنفيذ واشنطن لوعيدها بوقف المساعدات، والحال أن إطلاق التهديد من دون القدرة على تنفيذه إنما يؤكد ضعف بلد وليس قوته، والواقع أن ترامب يوجد في الموقف نفسه عندما يهدد بقصف كوريا الشمالية في حين أن الجميع يعلم أنه غير قادر على فعل ذلك، اللهم إلا إذا كان يريد التسبب في حرب عالمية ثالثة.

وفي الأثناء، أعلنت جواتيمالا أنها تعتزم نقل سفارتها أيضاً. وقد تقوم بذلك أيضاً حفنة من البلدان تلك التي صوتت مثل واشنطن ضد القرار، وبالتالي فليس ثمة ما من شأنه أن يغيّر التوازنات الجيوسياسية؛ ولكن الأمر يتعلق بالمقابل بطريقة إثبات أن ترامب يُضعف الولايات المتحدة، سواء بخصوص هذا الملف وملفات أخرى، من خلال توتير العلاقات مع البلدان الأخرى، والحال أنه في عالمنا المعولم بات من المستحيل اللعب بهذه الطريقة الفردية، كما يبدو أن ترامب لا يدرك أيضاً أن وقت التهديدات التي كانت ترغم كل البلدان الأخرى على الاصطفاف في صف الولايات المتحدة قد ولى، ذلك أنه لم يعد كافياً الضرب بقبضة اليد على الطاولة لكي يولي كل العالم الانتباه، ويتبع الخط الأميركي، لأن الولايات المتحدة والعالم الغربي بشكل عام فقد احتكاره للقوة، وقد أدرك ذلك الفرنسيون والأوروبيون الذين أخذوا يتبنون، نتيجة لذلك، دبلوماسية متعددة الأطراف، أما ترامب فإنه يتجاهل ذلك، لأنه يمارس دبلوماسية تروم بالدرجة الأولى إرضاء ناخبيه الذين ليس لديهم أي إدراك للتطورات الاستراتيجية الجارية وما زالوا يؤمنون بتفوق أميركي يعتقدونه متواصلاً. إن دبلوماسية ترامب قد تكون ذات شعبية بالنسبة لناخبيه، ولكنها مكلِّفة للولايات المتحدة لأن الوقائع عنيدة، وإنكار الحقائق الاستراتيجية لا يغيّرها.