رأي القدس

يتمتع حزب «العدالة والتنمية» المغربي بقيادة كاريزمية يمثلها أمينه العام عبد الإله بن كيران، وبشعبية قويّة مكنته من الفوز في عدة دورات انتخابية، وبمرونة سياسية جعلته قادرا على التعامل بحنكة مع «الدولة العميقة» (أو «المخزن» باصطلاح المغاربة) والتي فرضت عليه في انتخابات عام 2003 خفض عدد مرشحيه إلى النصف، كما ضغطت عليه كي لا يسيطر على بلدية طنجة والعاصمة والمدن الأخرى في انتخابات عام 2009، وجابهته في انتخابات 2015 المحلية و2016 النيابية بأحزاب تحظى بدعم شبه رسميّ كحزب «الأصالة والمعاصرة»، ولكنّه استطاع تخطّي الحواجز مجدداً وفاز بأغلبية (125 مقعداً) تسمح له بتشكيل الحكومة.


غيّر أن «العدالة والتنمية»، وزعيمه المكلّف، يواجهان منذ 10 تشرين الأول/أكتوبر الماضي وحتى الآن عقبات كبيرة في تشكيل حكومة جديدة ويتركّز الضغط الذي يقوده حزب «التجمع الوطني للأحرار» وزعيمه عزيز أخنوش (الذي تعتبره الأوساط السياسية مقرّباً من الملك محمد السادس) على وضع شروط تستهدف إبعاد أحزاب مقرّبة من «العدالة والتنمية»، كما حصل مع حزب «الاستقلال»، وهو من أعرق الأحزاب المغربية وأقدمها، وضمّ أحزابا أخرى هي «الاتحاد الدستوري» و«الاتحاد الاشتراكي»، في شكل من استتباع ولائها وتمييع سلطات «العدالة والتنمية».
الجمهور المغربي تعامل مع استبعاد «الاستقلال» وضمّ «الاتحاد الدستوري» للحكومة كمحاولة لإرضاخ بن كيران وأدّى ذلك إلى تراجع في شعبيته، وهو ما دفعه لإيقاف المشاورات مما أدخل مهمة تشكيل الحكومة في استعصاء غير معهود وتعرّض «المخزن» لاتهامات بمحاولة وضع العصيّ في دواليب الحكومة المغربية، وأن إحراج بن كيران هدفه إخراج تيار الإسلام المعتدل من سدّة الحكم.
رئيس مجلس رئاسة حزب «التقدم والاشتراكية»، إسماعيل العلوي، وسّع الدائرة المستهدفة من المناورات الحزبية الراهنة وقال إن «الثمن الذي يمكن أن ندفعه باختيار هذا التوجه هو نهاية الاستقرار الذي تتمتع به بلادنا»، لكن الأخطر من ذلك أنه شبّه ما يمكن أن يؤول إليه الوضع الراهن بما حصل في اسبانيا بين 1939 و1974، وهي مرحلة الحرب الأهلية التي أفضت بالنهاية إلى حكم عسكريّ فاشي أنهى التجربة الديمقراطية الإسبانية.
هذه الإشارة يمكن ربطها عمليّاً بمجريات الوضع العالمي وانعكاساته العربية، وخصوصاً استلام دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية، وبدء إصدار قرارات خطيرة ضد المسلمين والعرب، وهو تيّار سياسي استئصاليّ لا يميّز بين التيارات المتطرّفة والمعتدلة ويعمّم وصمة الإرهاب على المسلمين جميعاً، ويساند الأنظمة الدكتاتورية والعسكرية، وهو ما يجد سنداً كبيراً في تيار الثورة المضادة المستفحل أثراً في المنطقة العربية والذي يقف على رأسه النظام المصري وتدعمه قوى خليجية، كما يجد حلفاء أشدّاء له في إسرائيل وفي أركان «الدولة العميقة» في كل البلدان العربية.
وفي المغرب يجد هذا الاتجاه أنصاراً له يحاولون توسيع الفجوة بين الأحزاب الشعبية الكبيرة، كحزب «العدالة والتنمية»، والمؤسسة الملكية، والمراهنة على تأزيم الوضع السياسي، وهو ما ينعكس، بالتأكيد، في تأزيم للوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتدهوراً في النظام السياسي، وانحساراً في الديمقراطية، التي هي السند الأساسي لغنى المجتمعات وتقدّمها.
من المخجل حقّاً أن يصل الوضع بالحالة السياسية في المغرب إلى تحوّل بعض زعماء الأحزاب إلى ما يشبه العمّال من كاسري الإضراب الذين يواجهون زملاءهم الذين يحاولون تحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية بالضرب والتهشيم وذلك للحصول على منافع صغيرة من أصحاب المصانع الكبار، وهو أمر أشار إليه العلوي بالقول إن «عناصر من الطبقة السياسية لم تبق في مستوى الجودة التي كانت عليها في الماضي».
ولعل مطلوب المشتغلين على الاستعصاء الراهن، إضافة إلى كل ما ذكرنا آنفا، هو تكسير المثال الديمقراطي الرشيد الذي سار عليه المغرب خلال العقود الماضية وهو أمر لن يكون في صالح العرب أو العالم.