سيد محمود 

قد يحتاج معرض القاهرة الدولي للكتاب (من 26 الجاري إلى 10 شباط - فبراير) إلى معجزة تنظيمية ترد إليه شبابه بعدما غزته ملامح الشيخوخة وتعيد إليه مكانته كمعرضٍ عربي عريق ورائد. فهو مازال يعتمد حتى الآن على رصيد تاريخي يدور في فلك ريادة مصر الثقافية، وهي ريادة اكتسبتها مقارنة بجيرانها من دولٍ لم تمرّ بالظروف نفسها التي واكبت عملية تحديث عرفتها مصر بدءاً من نهاية القرن التاسع العشر وحتى سبعينات القرن الماضي.

واعتماداً على هذا الإرث، يرى منظمو المعرض القاهري إلى المعارض المنافسة نظرةً لا تختلف عن نظرة الأخ الأكبر إلى الإخوة الأصغر منه سناً، بحيث يظلّون في استحضار دائم لماضٍ مزدهر، في حين تُجاهر المعارض الأحدث بقدراتها المتفوقة في التعامل مع التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة.

وعند أية مقارنة، يبرّر منظمو معرض القاهرة ثغراته بعللٍ تتعلق فقط بضعف القدرة المالية التي تعطي المنافسين العرب، ودول الخليج بالذات، ميزات تنافسية واضحة باتت الأكثر إغراء للناشرين والمبدعين الذين يشاركون في نشاطات ثقافية موازية.

حتى إنّ ميزة الأعداد الكبيرة من روّاد معرض القاهرة الذين يفوقون مجموع روّاد معارض الكتب العربية مجتمعة، بات من المشكوك فيها ترجمتها إلى أرقام مبيعات، إذ لا يعلن معرض القاهرة حجم مبيعاته مجتمعةً. وأغلب الظنّ أنّه لا يحقق المبيعات التي بلغها معرض الرياض في دوراته الخمس الأخيرة بعدما تراجعت قبضة الرقابة. ووفق بيانات نشرها الموقع الإلكتروني لقناة العربية، استقبل في دورته الأخيرة أكثر من 350 ألف زائر، وبحجم مبيعات بلغ نحو 60 مليون ريال، (الريال السعودي يساوي 5 جنيهات مصرية).

وفِي المقابل، تركت أحداث مصر الأخيرة أثرها الواضح في المعرض الذي شهد انكماشاً في مبيعاته، لا بدّ أن تتضاعف في دورته الحالية مع سوء الأوضاع الاقتصادية، كردّ فعل تجاه قرارات تعويم الجنيه المصري وتحرير سعر صرفه أمام العملات الأجنبية. وقد أدّت سياسة ارتفاع إيجار أجنحة العرض إلى تقليص حجم المشاركات، على رغم محاولات الإبقاء على القيمة الإيجارية بالأسعار القديمة بفضل جهود اتحاد الناشرين العرب والمصريين.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ ارتفاع تكاليف الطباعة نتيجة قرار سعر صرف الجنيه أدّى إلى خسائر في صناعة الطباعة، وشكّل عاملاً يُهدد بتراجع حجم مبيعات الكتب على الصعيد المحلي، ما يؤدي إلى إلحاق خسائر لا تقل عن 50 مليون جنيه في شكل مبدئي وفقاً لتقديرات صحافية نقلت عن مصدر في غرفة الطباعة باتحاد الصناعات المصرية، قبيل افتتاح المعرض، يوم الخميس (في 26 الشهر الجاري).

على رغم الصعوبات التي تواجه معرض القاهرة في دورته الـ 48، تبقى للمعرض ميزة رئيسة ممثلة في تحرّره التام من أزمة الرقابة عقب ثورة ٢٥ كانون الثاني (يناير). لكنّ الأزمة الكامنة ليست اقتصادية فقط إنما تنظيمية، بحيث مازال العقل المنظم للمعرض يعمل بالآليات القديمة نفسها التي رسخها سمير سرحان خلال فترة رئاسته الطويلة لهيئة الكتاب (الجهة المنظمة له)، والملائمة لإستراتيجية ثقافية وضعها فاروق حسني وزير الثقافة الأشهر (١٩٨٨- ٢٠١١); وهي انطلقت من تصوّر ما عن ريادة مصرية بلا منافسة، وعملت على استعادة موقع مصر الريادي بعدما تعرض لهزة عقب قرارات المقاطعة العربية لمصر في أعقاب كامب ديفيد ١٩٧٩، وساعد على هذه العودة فوز نجيب محفوظ بنوبل في عام ١٩٨٨ وتحوله بعدها إلى مصدر فخر عربي. ونجحت الدولة في استغلال هذا الحدث الاستثنائي عبر سيل من النشاطات ذات البعد العربي، وإطلاق الجوائز والمؤتمرات الأدبية من المجلس الأعلى للثقافة وأحداث ما سماه الوزير الفنان «الضوضاء الثقافية»، وقد حولت معها الثقافة من عمل تأسيسي إلى مهرجانات بطابع كرنفالي. وقدم معرض الكتاب الصيغة المثلى لهذا التحول، إذ تقلصت فيه الصفة المهنية وتحول من سوق للكتاب أو فضاء لشراء حقوق الملكية الفكرية وتبادلها إلى مناسبة احتفالية استعملتها الدولة بغية عرض جدول أعمالها ثقافياً. هكذا إذاً صارت منصة أطلقت منها الوجوه السياسية المرضي عنها أيضاً، والتي لعبت الأدوار الرئيسة في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك.

وظل المعرض لما يقرب من ربع قرن نافذة أو «فاترينة» لعرض بضاعة الدولة ونخبتها الجديدة المتحالفة مع رجال الأعمال، وعبره تم اختزال أولويات الثقافية المصرية في مواجهة الإسلام السياسي وحده وتم تمرير صيغة برامج فكرية تقوم على مواجهات بين تيارات متعارضة فكرياً وسياسياً. وبفضل ذلك نال نظام مبارك سمعة حسنة كنظام يسمح لبعض معارضيه بالتعبير عن أفكارهم بحرية.

هكذا واجه المعرض في السنوات الأخيرة أزمة تكرار عناوين الندوات وأسماء المدعوين لها من خارج مصر وداخلها، وهي أزمة لابد لها من حلّ، على اعتبار أن المعارض العربية المنافسة تعتمد على أفضليات تنظيمية ومالية تجعل معرض القاهرة في منافسة غير متكافئة معها، خصوصاً أن الوضع الاقتصادي قلّص أعداد المدعوين العرب إلى أقل من عشرة مدعوين هذا العام، إذا تم استثناء ممثلي المغرب، ضيفة الشرف هذا العام.

ويزيد من أزمة المعرض افتقاده منصب المدير المتفرغ كلياً لمهمة الإعداد والتنظيم، إذ يتولى رئيس هيئة الكتاب مهمة إدارة المعرض، إضافة إلى مسؤولياته العديدة في إدارة أكبر قطاع للنشر الرسمي في مصر. والأكيد أنّ وزارة الثقافة تحتاج مجدداً إلى التفكير في كيفية التخفف من عبء التنظيم ودراسة اقتراح قديم قدمه اتحاد الناشرين خلال رئاسة إبراهيم المعلم بتولي مسؤولية إدارة المعرض وتنظيمه من خلال شركات متخصصة، وهي الصيغة التي تعمل بها أغلب المعارض العربية ذات السمعة المميزة.

أمّا دخول اتحاد الناشرين كطرف تنظيمي فلا بدّ أن يؤدي الى إحكام الرقابة على عرض الكتب المزورة داخل أجنحة المعرض، بالإضافة إلى مراقبة الاعتداءات على حقوق الملكية الفكرية والترجمة، وإيقاف مشاركة المكتبات وموزعي الكتب وحصرها بالناشرين، ما يضمن عرض الكتاب بســـعر واحد من ناحية، ومن ناحية أخرى يسهّل مهمة عمل دليل إلكتروني شامل للكتب المعروضة بغية تسهيل مهمة رواده، كما هو الحال في المعارض الأحدث عمراً والأكثر جاذبية من معرض القاهرة العجوز، والذي يحتاج فعلاً إلى عملية تجميل لا بد أن تشمل السياسات الثقافية المصرية في قطاعاتها الرسمية كلها.