وليد شقير

يعود لبنان إلى حال التأزم السياسي على رغم اعتقاد شاع بأنه خرج من دائرة الاضطراب بمجرد إنهاء الفراغ الرئاسي في 31 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. ويلوح في الأفق تهديد جديد بالفراغ، الذي أصبح وسيلة ضغط سياسي لتحقيق مكاسب، كما حصل في الرئاسة الأولى مع الرئيس ميشال عون طوال سنتين ونصف السنة، انتهت بالتسليم به على رأس الدولة اللبنانية، بذريعة إنهاء تعطيل الرئاسة ودورها في انتظام مؤسسات الدولة، ووقف الانهيار الذي بلغته.

باتت للفراغ مشروعية في اللعبة السياسية اللبنانية، سواء كان يخدم قوى خارجية أم قوى محلية أم الطرفين معاً.

وإحداث الفراغ عن سابق تصور وتصميم أصبح وسيلة تهديد، لضمان إذعان قوى سياسية لا تتناغم مع أهداف قوى أخرى وقناعاتها، وهو وجه آخر من أوجه استخدام العنف الذي يعمّ عدداً من الدول القريبة من لبنان، وأخذ يفعل فعل هذا العنف في إرغام تلك القوى على الانصياع لما يريده الخصوم. والأخطر في اعتياد توسل الفراغ في الصراع السياسي، أنه أخذ يتمنطق بالميثاقية وبالدستور، فيطوعه وفق مصلحة ظرفية وآنية، ويتحول الكتاب الذي يشكل العقد الاجتماعي بين مكونات الدولة إلى «وجهة نظر» قابلة للانتهاك أو للتعديل بالممارسة، بحسب الظروف، بينما الدستور وجد أساساً للحؤول دون أي فراغ في القواعد التي تسيّر الدولة وتنظّم عملها وأدوارها ومهمات مؤسساتها.

ولطالما برهنت الأحداث في لبنان أن تطويع الدستور لأسباب سياسية وبشعارات تحتكر تفسيراً استنسابياً له لخدمة هدف مضمر أو صريح، لا يلبث أن يسقط أمام تبدل الظروف، التي كانت على الدوام خارجية وإقليمية، وهذا ما يجعل هذا التطويع مرتبطاً بموازين القوى وليس بالمبادئ الدستورية ومواد الكتاب، ولو كان بعضها منقوصاً أو حمّالَ أوجه. هذا ما حصل أيام الوصاية السورية، حين جرى التطبيق المبتور لدستور اتفاق الطائف، لإضعاف قوى سياسية وطائفية رفضت الإذعان للعبث بالتركيبة اللبنانية التقليدية. 

وعلى رغم أن الانكفاء السوري عن لبنان أطلق مناخاً مواتياً لإمكان العودة إلى النصوص الدستورية بلا لف ودوران، فإن عوامل خارجية جديدة نشأت عادت فأفرغت هذا الاعتقاد من مضمونه، مع حاجة النفوذ الإيراني في لبنان، عبر «حزب الله»، إلى تغييب مؤسسات الدولة، فبات تكوين السلطة يخضع لعامل القوة والعنف والقهر، ولحسابات تخدم مشروعاً إقليمياً، يتطلب تكييف قرار السلطة اللبنانية مع متطلباته.

ألغت المرحلة الماضية اللعبة السياسية الداخلية، وكادت تدفع الدولة إلى الاضمحلال، بعد تعطيل أدوار طوائف وزعامات مؤئرة في التاريخ اللبناني، بالإكراه تارة، وبالاغتيال والإبعاد أخرى وبالسجن ثالثة.

من مخاطر التأزم الجديد أن مفاعيله تفوق آثار الفراغ الرئاسي الذي أنهك الدولة، فالتلويح بالفراغ في السلطة التشريعية، أي بانتهاء ولاية البرلمان الجديد من دون انتخاب غيره من الشعب، نتيجة الخلاف على قانون الانتخاب، يعني إسقاط الدولة ومؤسساتها، بحيث لا تبقى هناك مشروعية لأي مؤسسة أخرى من مؤسسات الحكم. وحتى الرئاسة الحالية كمنقذ من الفراغ، تصبح بلا مفعول، سوى الدور المعنوي، فممارستها سلطتها مرتبطة بالحكومة والبرلمان، في وقت لم يمنع فراغ الرئاسة السلطتين التنفيذية والاشتراعية من ممارسة دوريهما الدستوريين، بإقرار من محبذي الفراغ الرئاسي أنفسهم. وحين مُنعت هاتان المؤسستان من ممارسة دوريهما كان المانع سياسياً، وليس دستورياً.

قد لا يذهب لبنان إلى الفراغ النيابي، على رغم تلويح الرئيس عون بذلك، بحجة رفضه وقوى عديدة أخرى إجراءَ الانتخابات على أساس قانون الانتخاب القديم، لأن البرلمان قادر على الاجتماع والتمديد لنفسه في أسوأ الأحوال، أو على إصدار قانون جديد بالأكثرية، لإجراء الانتخابات على أساسه في أحسن الأحوال، إذا جرى تعطيل حصولها وفق القانون النافذ. 

إلا أن الضرر على الواقع السياسي اللبناني يكون تجدد بفعل العودة إلى صراع طائفي جديد، لأن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين «استعادة دور المسيحيين» الذي قلصته الوصاية السورية، وبين استعادة هذا الدور إلى ما كان عليه قبل اتفاق الطائف، أي إلى ما قبل اعتماد التوزيع الجديد للشراكة في السلطة، التي كانت مصدر شكوى أذكت الحرب الأهلية، فخصوصية طائفة تبرر خصوصية سائر الطوائف في نظام يقوم على التوزيع الطائفي للأدوار والحصص. والضرر على الرئاسة الجديدة يكون وقع لتعطيل المؤسسات بدل أن يكون ملء الفراغ منطلقاً لتفعيلها.

وخيبات الأمل التي أسقطت أوهاماً ما زالت ماثلة، فالرئيس إميل لحود اعتبر نفسه «المثال» والمعيار لإدارة الدولة، فانتهى الأمر بالتشكيك بدوره كحَكَم على رغم النفوذ السوري الذي تمسك به.