فـــؤاد مطـــر

 مع الشهر الأول من ثمانينيته يضيف السيد الصادق المهدي إلى تراثه السياسي صفحة جديدة في أصول الممارسة بين قطب معارض ونظام حاكم يرد على التحية التي رافقت العودة من المنفى الاختياري بأحسن منها، وبذلك يعيش السودان لحظات من تآلف القلوب ما أحوج بعض ديار الأمتين إلى اقتباسها.


زيادة في التوضيح نستحضر الظروف الناشئة عن المفردات الصاخبة الكثيرة الخشونة التي قادت إلى هجرته الثانية وكانت، أي تلك المفردات، حملت الرئيس عمر حسن البشير على سَجْن الصادق ذي الصفتيْن: إمامة طائفة الأنصار التي لسيدها عبد الرحمن صفحة جهادية مضيئة في تاريخ استقلال السودان، ورئاسة «حزب الأمة» الذي يتميز عن سائر كوكبة الأحزاب السودانية بقدرته على أن يكون جامع الشتات السوداني المعارض بختمييه وإسلاموييه وماركسييه وناصرييه وبقايا مايوييه والمتبقي من بعثييه.
كان ذلك قبل سنتين ونصف عندما لم يتحمل النظام حدة التخاطب المهدي وما رافق هذا التخاطب من حراك شعبي فكان إيداع الإمام – الرئيس السجن وعلى نحو ما جرى مع الشيخ الترابي الخارج على عقْد الشراكة مع النظام. ولأن الرئيس البشير يعرف مدى دقة الحساسية الناشئة عن إيداع مَن هو إمام الطائفة الأهم في السجن وكذلك مدى الضيق الذي يختزنه نجل الصادق، الضابط الملتزم عبد الرحمن الذي يشغل منصب أحد المستشارين للرئيس البشير وتلك حالة غير مسبوقة وربما غير قابلة للاستنساخ في أي من الأنظمة في دول العالم الثالث، فإنه تم التوافق على الإفراج المدروس وبحيث إنه بعد تمضية شهر في السجن يغادر السيد الصادق السودان إلى المنفى المفضل لديه (القاهرة) كون مصر ملاذ السودانيين على اختلاف مشاربهم من دون أن يعني هذا الاختيار أن دولاً عربية أُخرى لا ترحِّب بمثل هذه الاستضافة.
كان الصادق كرجل دولة خَبِر تعقيدات السلطة على مدى حقبتيْن من الترؤس للحكومة يحاول صياغة حُكْم يمتزج فيها اكتسابه العلمانية الأكسفوردية بعميق ثقافته الإسلامية، وهو بعد تجربته الأُولى كرئيس للحكومة بين 25 يوليو (تموز) 1966 ومايو (أيار) 1967 وضع على الورق من الأفكار ما افترض أن من شأن تطبيقها قيام سودان مؤمن دون تعصب، لكن سرعان ما عصفت بحكومته صراعات نقلتْه من رجل السلطة إلى رجل المعارضة من دون أن يتخلى عن رومانسية سودانه كما يراه. وافترض أن عودته بعد تسع عشرة سنة رئيسًا للحكومة تشكِّل الفرصة المناسبة لمعاودة ما يحلم به كصيغة للسودان، لكن السودان انقلب وبدأت من جديد مجموعة الضباط الرواد بقيادة العقيد جعفر نميري حقبة عسكرة الحُكم السوداني التي لا تتيح لمَن هو بمفاهيم الصادق المهدي الانسجام معها أو العمل بصيغة التشارك مع النخبة من الضباط على نحو ما استساغ المشاركة بعض رموز اليسار في السودان.
ويمكن القول إنه بعد انطواء التجربة الثانية للصادق كرئيس للوزراء التي استغرقت ثلاثة عشر عامًا مثقلة بالهموم، دخل الرجل في فضاء المعارضة التي أثقلت كاهله وجعلتْه يرى بعد استخارة، التي تسبق دائمًا اتخاذه القرارات، أن الهجرة علاج نتيجة استحالة التعايش أو التعامل مع نميري وضباط «ثورة 25 مايو» دون استثناء. وفي سنوات الهجرة الأُولى بين بريطانيا وليبيا قاسى أبناء طائفة «الأنصار» الكثير وأحيانًا مما لا قدرة على تحمُّله، الأمر الذي جعل الصادق ينظر في سعي للمصالحة مع نظام نميري واكبْتُه على مدى سنتين كصحافي شاءت الظروف أن يكون على مسافة من الود مع الطرفيْن، الأمر الذي يسر في لحظات من التعقيد مساندتي مهمة الوسيط رجل الأعمال فتح الرحمن البشير. وتلك مرحلة قادت إلى مصالحة وثَّقتها في كتاب بعنوان «المصالحة الوطنية الأُولى في السودان.. نَكَسوها أم انتكست». ولو أن تلك المصالحة انتهت إلى ثبات لكان على الأرجح لن يدخل نظام نميري في الدوامة التي جعلت الصادق يخطط للابتعاد، ثم لتجعل نظام نميري يدخل مرحلة التآكل. ثم يترأس الصادق حكومة ما لبث نظام «ثورة الإنقاذ» بقيادة الرئيس البشير أن أسقطها، وبالتالي تجعل رئيسها الصادق المهدي بعد جولات من المكابدة والمكايدة يرى أن أقداره على ما يبدو هي أن مداواة عدم التجانس تكون بالهجرة.
وهكذا رأيْنا الصادق المهدي يخرج من السجن ويغادر إلى القاهرة يقيم فيها متحركًا منها غير متدخل في صراعات بين أحزابها وسياسييها، تمامًا على نحو ما فعل صديقه اللدود الرئيس جعفر نميري عندما حطت طائرته في القاهرة ضيفًا على الرئيس حسني مبارك بعدما بلغه وهو عائد من زيارة إلى واشنطن أجرى خلالها محادثات مع الرئيس رونالد ريغان أن وزير الدفاع الفريق عبد الرحمن سوار الذهب أمسك بمقاليد السلطة لفترة انتقالية تستغرق سنة درءًا لصراعات قد تزج السودان بما لا يُحمد عقباه. وكان سوار الذهب عند حُسْن الظن حيث إنه مع اليوم الأخير من السنة الانتقالية غادر السلطة محترمًا نفسه ووعده.
وكما عاد نميري بالترحيب والتكريم من منفاه القاهري الاضطراري وعاش في سودانه «رئيسًا سابقًا» وهو وضْع يلقى في نفس الرئيس البشير الطمأنينة النفسية على نحو ما نقل لنا عنه خلال زيارته الجديدة للرياض زميلنا غسان شربل، فإن الصادق المهدي عاد هو الآخر وصادفت العودة يوم ذكرى ثورة 25 يناير المصرية. ولقي في الخرطوم استقبالاً متميزًا كانت لافتة فيه تحية غير مألوفة في دول العالم الثالث بالنسبة إلى الشخصيات المعارضة للنظام. وتمثلت التحية بترحيب من مجلس الوزراء بعودة الصادق الذي أراد محازبوه تذكيره بأنه رغم دخوله العام الثاني والثمانين فإنه يبقى في نظرهم ذلك الفارس الذي طالما عرفوه فارسًا يمتطي صهوة الجواد. وهذا معروف عنه كون رياضة «البولو» إحدى هواياته التي اكتسبها في عز شبابه زمن الدراسة في جامعة أكسفورد. ولعل المحازبين من أجل ذلك أرادوا أن يغادر مطار الخرطوم ممتطيًا صهوة جواده، وعلى نحو ما فعل صدَّام حسين عندما امتطى حصانًا أبيض بعدما أعلن الإمام الخميني إنهاء الحرب بعبارة «كمَن يتجرع السم». وكان ذلك الامتطاء فِعْل سوء له ثم للعراق.
لا أتصور أن الهجرة ستتكرر بعد الآن. لا العمر يسمح ولا مستقبل السودان يجيز صراعات تنتهي بالهجرة أو بالاعتقالات أو بالمعاندة والمكايدة. وها هو الرئيس البشير يسجل لبني قومه أمثولة في الانفتاح على أميركا التي طالما أراد الصادق الانفتاح عليها مع اختلاف المنطلقات وأسلوب التعامل.
ويبقى أن يعزز الصادق كأب ورجل دولة مخضرم انطلاقة الابن عبد الرحمن المهدي الذي أثبت خياره التحليق في فضاء النظام أن ذلك يؤلف بين القلوب. ولقد حدث التآلف... أو فلنقل ملامح تبشر بالتعايش.
كما يبقى لمناسبة عودة الصادق التي ما بعدها هجرة، إضاءة على جانب من ظروف العودة عام 1977 من الهجرة الأُولى عندما كان الصادق في الثانية والأربعين وكيف ارتأيتُ معه تثبيت العودة في صيغة رسالة وداع للمنفى كتبها بخط يده. وسنقرأها ويقرأها وقد بات في الثانية والثمانين في مقالة لاحقة حول رحلة المعارضة ذات الأصول في السودان. والله يسدِّد خطوات الذين يريدون لأوطانهم وشعوبهم الاستقرار الذي يحقق الازدهار..