سمير عطا الله 

 بعد 1948 هاجر جبرا إبراهيم جبرا إلى بغداد، واستوطن فيها، وأصبح واحدًا من أساتذتها وأدبائها. سافر غيره من أدباء ومفكري فلسطين إلى مصر ولندن وبيروت. وفيها تمتعوا بأسباب الشهرة ومناخات الحرية والانفتاح، بينما ضاع أدب جبرا في حروب الرقابة وحروب الانقلابات وحروب الخوف من ليل التغيير. وكان مدير إحدى شركات التوزيع العربية الكبرى في بغداد، يروي بكل جدية، أنه يعلق على جدار مكتبه صورة الحاكم الحالي، والحاكم المُحتمل، والحاكم السابق الذي يُحتمل أن يعود. صورة خلف صورة، ويبقي المذياع مفتوحًا. أذن إلى المذياع، عين على الجدار.


كان جبرا أديبًا متكرسًا وإنسانًا كثير السجايا. وقد بذل جهدًا هائلاً في عمل لا مردود ماديًا أو أدبيًا له: الترجمة الصعبة. ومن الترجمات انتقى أقصاها: أعمال شكسبير. ولم يكتفِ بالرجل الذي لا يُترجم، بل انتقل إلى وليم فوكنر، كاتب الجنوب الأميركي القاتم، وترجم تحفته «الصوت والغضب»، وهو مقطع مأخوذ أيضًا من «ماكبث» شكسبير.
لكن جبرا وضع «الصوت والغضب» في سياقها الشكسبيري (ماكبث) وحوّلها إلى «الصخب والعنف». وما زلت غير مقتنع كليًا بالترجمة لكنني عجزت عن العثور على أقرب منها. ولا أدري لماذا حول لقب الشريف (الشرطي) إلى (شريف) وكأنه اسم علم. ما أدريه هو أن جبرا وضع مقدمة لشرح الرواية، تكاد تكون في أهمية الرواية نفسها. ومن دونها لا يمكن قراءة «الصوت والصخب» بالعربية، إلا كنص غامض ومتفرق.
لماذا اختار صاحب «البئر الأولى» هذه الأعمال النخبوية، الشديدة التعقيد؟ لا أعرف، ربما لأنه أراد أن يثبت الفارق بين براعته وعادية الذين تطرقوا إلى شكسبير من قبل. أو أيضًا لأن في مرحلته كانت أعمال شكسبير وفوكنر شائعة في هموم وشغف المثقف العربي.
لكن أكثر ما يؤلمني في آثار جبرا، أنه لا يُذكر دومًا، وكما ينبغي، في الأدب الفلسطيني. هل أيضًا بسبب نخبويته؟ بسبب نوعية عطاءاته؟ ولكن ماذا عن العطاءات «الفلسطينية» بينها: «كالبئر الأولى»، التي لا يأتي ذكرها كثيرًا، لا في المدينة ولا في القرية ولا في الحكاية الفلسطينية؟
صحيح أنه لم يكن «شعبيًا» مثل محمود درويش وإدوارد سعيد، ولكن هل هذا يكفي لأن يكون منسيًا إلى هذا الحد؟ ثم إهمال واضح، لكن أحدًا لا يعرف سببه..