أحمد المرشد 

ثمة مشكلة كبيرة لم ينتبه لها بعض القادة العرب خصوصًا في الدول التي تمر بأزمات الربيع العربي، فما تشهده سوريا والعراق واليمن وليبيا، يجب أن ينبهنا الى أن الدولة الوطنية التي عرفناها خلال المائة العام الماضية تتعرض لمخاطر الانهيار، وأن نموذج دولة فلسطين المحتلة لن يكون الأوحد بيننا، بل مرشح للتكرار، وأنه على الشعوب العربية أن تنتبه لمخططات القوى الكبرى لمنطقتنا، وعلى الشعوب والقادة ضرورة الانتباه لمخاطر ما نعانيه من تشرذم وانقسام، فانقسام القوي داخل البلد الواحد خطر على مستقبل هذا البلد والعرب أجمعين.
وأمامنا التاريخ الذي يحذرنا بكل وضوح من التفتت، وهذا الحال المؤسف يدفعنا الى أن ندرك أنه على أبناء أي دولة تحل بها كارثة ما، أن يتناسوا خلافاتهم ليتوحدوا في مواجهة الأزمة. وأمامنا ما مرت به القضية الفلسطينية، زادت تشرذمًا بسبب تزايد الجماعات السياسية، وتقاتل الأخوة فيما بينهم وتناسوا وجود المحتل، الذي دعم بقوة انقسامهم وتشرذمهم. ولكي نتجنب هذا عربيًا، علينا أن تتآلف قلوب الأشقاء ولا ينساقون وراء المخططات الأمريكية والروسية والإيرانية والتركية، خاصة وأن كل هؤلاء لا يخططون لمصلحتنا وإنما لمصلحتهم فقط حتى وإن تباينت مصالحهم، ولكنها تصب فقط في الإضرار بالعرب.
وإذا ضربنا مثلاً بما يجري بالعراق، فحدث ولا حرج، وأمامنا تصريح رئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، بأن الحكومة المركزية في بغداد لم تنفذ أيًا من التزاماتها الدستورية تجاه الإقليم، مشيرًا إلى أنها تتعامل مع الإقليم وكأنه محافظة. المسؤول الكردي تحدث وكأن منطقة الأكراد قد أصبحت دولة داخل دولة، واللغة تحمل تهديدًا صريحًا بالندية مع بغداد، ناهيك عن اتهامه الحكومة الاتحادية في بغداد بأنها لم تنفذ أيًا من التزاماتها الدستورية تجاه الإقليم. ويشير بارزاني الى أن رؤيته لحل المشكلات مع بغداد تعتمد على «تمهيد أرضية ملائمة للتفاوض والتفاهم وإنجاح الحوار، بهدف معالجة المشكلات والخلافات القائمة بيننا، وعقد اتفاق يصب في صالح الطرفين».
نستدل من لهجة بارزاني العنيفة حيال العاصمة المركزية مدى تشدده في الانفصال مستندًا علي علاقات خاصة بين الإقليم والولايات المتحدة الأمريكية، فيقول: «الأكراد ينتظرون الكثير من أمريكا، وإن المبادئ التي تسعى من أجلها الولايات المتحدة موجودة في كردستان». والمقصود هنا أن ما تطالب به واشنطن العرب وهو نشر الديمقراطية والشفافية لا يوجد سوى في إقليم كردستان، ومن هنا يستقوي بارزاني بالأمريكان، ويصب لعناته على سياسات بلاده المتبعة حاليًا خصوصًا في التعامل مع تنظيم «داعش» الإرهابي، ويتهم العاصمة بغداد ويلومها بأنها سبب الازمة: «ما هو موجود الآن ليس مشكلة عسكرية، بل مشكلة سياسية، وفي اعتقادي أن القضاء على داعش عسكريًا لا يعني نهايته.. فداعش هو ثمرة السياسة الخاطئة المتبعة في العراق، وإذا استمرت هذه السياسة، سيبقى داعش في العراق ولن يزول».
وقد نرجع للوراء قليلاً، وتحديدًا خلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق، عندما تعمد الحاكم بول بريمر إضعاف هوية العراق الوطنية وتعميق الانقسام الطائفي وحل الجيش العراقي وملاحقة البعثيين، وهو ما فتح المجال لتنافس كل القوى الدولية والإقليمية على النيل من وحدة العراق، وثرواته وحدوده. فإيران تعمل في العراق وكأنه محافظة تابعة لبلاد فارس، وتركيا ترسل جيوشها للتوغل في المناطق العراقية وكأن العراق قطعة داخل الحدود التركية، والولايات المتحدة تراقب الوضع من بعيد بعد أن أفسدت الساسة العراقيين وجعلت الحكام الشيعة هم الأعلون ليعيثوا فسادًا في العراق، وكانت أمريكا سببًا في لجوء تنظيم القاعدة الى العراق لمواجهة الاحتلال الأمريكي، وهو ما تمخض عنه تأسيس تنظيمات داعش وجبهة النصرة وفتح الشام وغيرها من التنظيمات الإسلامية المتطرفة. وبدت عملية تنافس القوى الدولية والإقليمية منذ أن بدأت وكأنها لن تنتهي بعد، وهي كما يبدو عملية لا نهاية لها بما سيضر العراق والعراقيين.
ونعلم جميعًا أن العراق قبل أن يقع فريسة لتنظيم «داعش»، كان فريسة أصلاً بين الأتراك والإيرانيين، وهي نتيجة طبيعية في عملية التنافس الإقليمي والعالمي التي انطلقت في العراق والمنطقة. ولم تقف المشكلة عند حدود القوى الدولية والإقليمية لتفتيت العراق، لأن أمامنا في الصورة تباينًا وخلافات القادة العراقيين أنفسهم، حتى داخل الجسد الواحد، شيعة وسنة وأكراد، فالمواقف متباينة ومتباعدة، ونرى كل طرف مستعدًا لبيع بلاده وكأن الوطن - العراق - وطن لشعب آخر وأطياف أخرى، وكأن أمن العراق واستقلاله لا يهم هؤلاء القادة.
ورأينا في العراق، كيف تعامل الإيرانيون مع بلاد الرافدين، وكيف عملوا على تغيير الخريطة السياسية والجغرافية، ورأينا السياسيين العراقيين يتسابقون للذهاب الى طهران للحصول على مباركتها لهم وحمايتهم في مواجهة بقية الأطياف. كما نلحظ جميعًا أن الميزان السياسي العراقي لا يقوم على أساس كفتي الأمن والمصالح للدولة العراقية، بل على أساس التباين بين العراقيين الشيعة الخاضعين لإيران، والعراقيين السنة الذي تتسابق تركيا على احتضانهم، والأكراد يلهثون وراء الأمريكيين، ليضيع الأمن والمصالح العراقية بين التوجهين.
وعندما ننتقل الى سوريا، فالوضع أكثر مأساوية، كيف؟.. لنا أن نشير الى مطالب المعارضة السورية من الرئيس الأمركي الجديد دونالد ترامب، حيث حثته على الوفاء بتعهد إنشاء مناطق آمنة في سوريا، رغم التشكيك في تنفيذ ترامب هذه الخطوة حيث ربما تقود الى استدراج الولايات المتحدة الى غمار الحرب، كما أن مثل هذه الخطوة إذا أقدم عليها ترامب سترفع مستوى الصراع مع روسيا التي يبدو أن الرئيس الأمريكي الجديد يخشى مواجهتها ويعمل على استمالة رئيسها فلاديمير بوتين.
ولنا أن ندرك أن إنشاء مناطق آمنة في سوريا سيمثل تحولاً كبيرًا في السياسة الأمريكية، خاصة في ظل معارضة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الفكرة التي ستتطلب التزامًا بالدفاع عن مثل هذه المناطق من هجمات للنظام السوري أو حلفائه، ومن بينهم روسيا.
وفي الحالة السورية لن نعيد ما كتبناه سابقًا، خاصة وأن ما يجري يصب في اتجاه ما حذرنا منه في البداية، أي انهيار الدولة الوطنية، واعتماد كل الفصائل السياسية وغيرها على الشق الأجنبي لحل مشكلاته. وإذا كنا رأينا العراقيين يلجأون لايران وتركيا وأمريكا لنجدة كل طرف ضد الآخر، يلجأ النظام السوري لروسيا وإيران، والمعارضة السورية تهرول وراء أمريكا وتركيا. وما يدلنا أكثر على انهيار الدولة الوطنية في سوريا، أن المكون الكردي في سوريا بات يعول على أمريكا في حل جميع مشاكله، تمامًا مثل فعل أكراد العراق، وبات أكراد سوريا جزءًا محوريًا من الإستراتيجية الأمريكية، حيث استفادوا أيضًا من سلاح الجو الأمريكي الذي ساعد ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية في السيطرة على مساحات في شمال شرقي سوريا. ومع تزايد هذا النفوذ الكردي في شرق سوريا، اندفع الجيش التركي لمساعدة مقاتلي «الجيش السوري الحر» التابع للمعارضة عبر عملية «درع الفرات» في طرد تنظيم «داعش» والميليشيات الكردية المسلحة بعيدًا عن الحدود، مما مكَّن الجيش التركي من إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية تحت سيطرة «درع الفرات» بطول 100 كيلومتر، لتضيع الحدود والجغرافيا السورية.
خطورة ما يجري في سوريا، أن البلاد انقسمت الى مناطق حظر جوي، ومناطق آمنة، ومناطق محتلة من قبل الجيش التركي، ومناطق تحت سيطرة نظام بشار الأسد، ومناطق تحت سيطرة داعش، وأخرى تحت سيطرة المعارضة المسلحة، لتضيع الحدود والجغرافيا السورية كما أسلفنا.
وعلى مستوى اليمن الذي يشهد حربًا ضروسًا بين الحكومة الشرعية من جهة وقوات الحوثيين وعلي عبدالله صالح من ناحية أخرى، نرى كيف أصبحت الأراضي اليمنية مرتعًا للضربات الأمريكية، ففي ضربة واحدة للمقاتلات الأمريكية قبل أيام لأحد مواقع تنظيم القاعدة في اليمن مات أكثر من 100 يمني مقابل مقتل وإصابة 4 جنود أمريكيين. وأصبحت الأراضي اليمنية مرتعًا للأمريكيين الذين يبحثون عن قيادات القاعدة، ناهيك عن انتشار العسكريين الإيرانيين الذين يدربون الحوثيين على أعمال القتال.
وعودة لبدايتنا، ربما يتعين على قادتنا وشعوبنا التفكير من الآن وليس غدًا في كيفية تجنب ما جرى لفلسطين، فالنكبة الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني على مدى تاريخ احتلاله من قبل إسرائيل، مرشحة للتكرار في أراضٍ عربية أخرى، وأمامنا ما يجري في العراق وسوريا واليمن.
ويجب الإشارة هنا الى إعلان رئيس الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه خلال مؤتمر في جامعة جورج واشنطن مؤخرًا، أن الشرق الاوسط الذي نعرفه انتهى الى غير رجعة. وبالإضافة الى إعلانه هذا، أكد أن دولاً مثل العراق وسوريا لن تستعيد أبدًا حدودها السابقة، وقد اتفق معه في هذه الرؤية رئيس المخابرات المركزية الأمريكية.