سليم نصار

قبل أن تسافر تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، إلى واشنطن، حرصت على إجراء سلسلة أحاديث صحافية أشادت فيها بـ «العلاقة الخاصة» التي صاغها وكرسها ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية، مع فرانكلن روزفلت. وقد أثنى الرئيس دونالد ترامب على تلك «العلاقة الخاصة»، مؤكداً رغبته في تطويرها، بدليل أنه وضع تمثال تشرشل النصفي الموجود في البيت الأبيض، في صدر المكتب البيضاوي.

وفي آخر الاجتماع، تعمدت تيريزا ماي تذكيره بجذوره الإسكتلندية من جهة والدته، التي كان يعاملها بمحبة وتقدير، ناسباً إليها مسؤولية «قولبته» على الشكل الذي هو عليه.

عندما قدمت مذيعة التلفزيون البريطاني سيلينا سكوت فيلماً وثائقياً عن المتعهد الأميركي الناجح دونالد ترامب، حرصت على الإشارة إلى تأثير والدته الإسكتلندية في ظروف حياته. وروت في التفاصيل حكاية الصبية ماري - آن ماكلويد التي ولدت في قرية نائية كان سكانها يتاجرون ببيع السمك. وكان والدها واحداً من هؤلاء التجار الذين اضطرتهم الحاجة الى إرسال بناته الأربع إلى الولايات المتحدة. وكانت ماري - آن الصغرى، آخر المهاجرات بتأشيرة سياحية، وبمحفظة ليس فيها أكثر من خمسين دولاراً. وقد استضافتها شقيقتها الكبرى كاثرين إلى حين عثورها على عمل كخادمة لمدة أربع سنوات.

في احتفال أقامته الكنيسة لرعاياها، قدمت كاثرين شقيقتها ماري - آن إلى متعهد فظ الطباع، عرف في منطقة «لونغ آيلاند» بحبه للعمل كمتعهد بناء، وبكراهيته للسود. ويبدو أن فردريك كريست، وهو من أصول ألمانية، وقع في حب الصبية الإسكتلندية من أول نظرة. والدليل على ذلك أنه صارح ذويه وأخبرهم أنه التقى في الكنيسة بفتاة أحلامه. وبالفعل، تزوجا سنة 1936، وأمضيا يوماً واحداً من «شهر العسل» في منتجع داخل نيو جرسي. وكانت تلك الفترة القصيرة كافية لأن يبدل «فرد» نظام حياته، ويتحول إلى رجل مسؤول عن شريكة حياته، وعن تنشئة أفراد عائلته. وقد استغل حالات الرخاء والازدهار التي شهدتها نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية ليؤسس شركة إعمار، عرفت بسرعة إنجازاتها وبرخص أسعار منازلها. كما عرف «فرد» بأنه يتحاشى بيع المنازل للسود الذين يحمل لهم كراهية عنصرية فاضحة. وربما ظهرت هذه العنصرية أثناء انتمائه إلى المنظمة الإرهابية Ku Klux Klan التي عرفت باستخدام أساليب العنف والترويع ضد السود في مختلف الولايات. وقد تعرض للاعتقال مرات عدة خلال نشاطه في تشكيل مسيرات تنادي بتفوق الجنس الأبيض.

ويرجح المراقبون في الولايات المتحدة أن نجله دونالد ترامب حافظ على هذا الاقتباس من والده، بدليل أن الفريق الذي يقوده في الحزب الجمهوري أبعد ما يكون عن التنسيق مع الجالية السوداء. وتردد خلال الحملة الانتخابية أن معارضته للرئيس باراك أوباما هي نتيجة قناعته بضرورة إبعاد أي أسود عن البيت الأبيض!

وللذين يجهلون تاريخ هذه الظاهرة، نذكرهم بأن هذه المنظمة الإرهابية ولدت في أميركا على مرحلتين: الأولى، عقب انتهاء الحرب الأهلية سنة 1870. والثانية، تأسست سنة 1915 واستمرت إلى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. والدليل أن الرئيس ليندون جونسون، منتصف الستينات، اضطر إلى مهاجمتها على التلفزيون بعدما اتهمت بارتكاب جريمة ضد مواطن أسود.

يقول المؤرخون إن هذه المنظمة رأت النور كتجمع محدود العدد، يحجب أهدافه الحقيقية تحت غطاء شفاف، ظهر في ولاية تينيسي. ويزعم قادتها أن الاسم مشتق من الكلمة اليونانية Kykios ومعناها «الدائرة» أو «المركز». وقد باشرت نشاطها الخفي كمقاومة للجنس الأسود، مع الحفاظ على تفوق الجنس الأبيض. ويرتدي أعضاؤها قفاطين بيضاً تظهرهم في الليل كأشباح، بينما يحجب الوجه قناع أبيض ينتهي فوق الرأس كبوق طويل مسنن أشبه بالقبعة التي كان يرتديها قضاة محاكم التفتيش في إسبانيا.

وبما أن الترويع كان هدفهم الأول والأخير، لذلك كانت مسيراتهم الطويلة تتم في الليل، على أن تتقدمهم فرقة تحمل صليباً محترقاً، تستمر شعلته لمدة ثلاث ساعات.

الأمن الداخلي في الولايات المتحدة سجل أعلى نسبة انتماء إلى صفوف جمعية «كو كلاس كلان» سنة 1920 عندما وصل عدد الأعضاء الى أربعمئة ألف عضو. أي ما يفوق عدد أفراد الجيش النظامي في حينه.

ولكن هذا العدد تراجع تدريجياً بعد «الانهيار الاقتصادي» سنة 1930، إلى أن احتجبت هذه المنظمة عن الأنظار سنة 1964 بسبب القوانين الصارمة، والانتصارات التي حققها السود بعد انتفاضة مارتن لوثر كينغ ودخول أسود إلى البيت الأبيض.

بسبب عمله بوصية والده، حقق دونالد ترامب ثروة قدرتها مجلة «فوربز» بثلاثة بلايين و700 ألف دولار، في حين يدّعي هو أنها تتعدى العشرة بلايين. وقد حرص على منح والدته قسطاً من الرفاهية التي فقدتها في منزل أهلها في إسكتلندا، ثم عوضتها في منزل زوجها الألماني النزعة الذي عاشت معه مدة 54 سنة، وماتت من بعده بسنة واحدة. وقد أمن لها سيارة فخمة من طراز رولز رويس كانت تتنقل بها لزيارة أولادها في نيويورك. وقد توفيت سنة 2000 عن عمر لا يتجاوز 88 سنة.

عقب وفاة والديه بفترة طويلة، قرر دونالد ترامب اختبار قوة المال لجني مكاسب سياسية. لذلك أطل على مواطنيه من وراء مقولة سائدة: إن الذي يستطيع إنجاح شركته، يمكنه أيضاً إنجاح دولته.

والثابت أن لبنان كان أول دولة في هذه المنطقة تطبق هذا الشعار الذي رفعه الرئيس شارل حلو. وفي عهده كلف أثرياء عدة بتنفيذ هذه القاعدة، بينهم نجيب صالحة وبيار حلو. ثم كان الاختبار الأعظم في عهد الرئيس الياس الهراوي، الذي كلف الثري رفيق الحريري بمهمة إنجاح الوطن مثما أنجح «أوجيه». بل من بداية عهد الاستقلال كان يوسف سالم أحد ممثلي هذا المعيار، لكي نتذكر الحاج حسين العويني، في عهد الرئيس فؤاد شهاب.

وهنا يرتفع سؤال محيّر عن الجهة التي أقنعت ترامب بأهمية خوض معركة رئاسة الجمهورية!

يدّعي أنصاره أن الفراغ السياسي الذي عانت منه قيادة الحزب الجمهوري بعد فشلها المدوي في حرب العراق كان الدافع الأساسي لتشجيع رجل الأعمال على ركوب هذا المركب الخشن. ولكن قادة الحزب الديموقراطي يطرحون أسباباً أخرى تتعلق برغبة روسيا في اختراق جدران البيت الأبيض، والاشتراك مع الرئيس في «طبخ» القرارات الدولية. لذلك تمت مفاتحة ترامب بهذا الأمر سنة 2013، أي عندما زار موسكو للإشراف على برنامج انتخاب ملكة جمال العالم. وكانت شركته في حينه تملك وكالة حصرية لإجراء انتخاب ملكة جمال العالم في أي مدينة من مدن العالم.

ومن وراء هذا الاستنتاج يطل سؤال آخر يتعلق بغاية الرئيس فلاديمير بوتين من وراء احتواء سياسة رئيس أميركي متعاون؟

والجواب الشافي عند ترامب الذي طالب في حملته الانتخابية بضرورة حل الاتحاد الأوروبي المتعثر. كما رأى في نتائج الاستفتاء الذي اقترحه ديفيد كاميرون بداية تفكك الوحدة الأوروبية، إضافة إلى هزيمة رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي الذي أفشله الاستفتاء أيضاً.

والجواب أيضاً عند ترامب الذي دعا إلى حل حلف «الناتو»، مع كل ما يمثله من حماية عسكرية لمنع التمدد الروسي. ولوحظ أن ترامب دافع عن القرصنة الروسية بعد اتهامها بالتدخل، ووضع الملامة على وكالات الاستخبارات ووسائل الإعلام المحلية. وبدلاً من دعوته إلى إجراء تحقيق بالأمر، اكتفى بوصف «القرصنة» الروسية بأنها من صنع الحزب الديموقراطي. كذلك شكّل اختيار رئيس شركة «إكسون» للنفط ريكس تيلرسون لمنصب وزير الخارجية خروجاً عن المألوف منذ نهاية الحرب الباردة. ذلك أن ريكس، صديق بوتين، لا يمكن أن يخرج على المعايير المقبولة من روسيا.

في حديثه إلى محطة «سي إن إن» تحدث الخبير السياسي فريد زكريا عن الخطأ في ممارسة نفوذ الرئاسة بعقلية الربح والخسارة، مثلما يفعل دونالد ترامب. وكان بهذا الوصف ينتقد أداءه التجاري عبر اجتماعه برؤساء شركات السيارات ومديري مصانع الأحذية والبدلات الجاهزة، كأن رئيس أكبر دولة في العالم قد تحول في هذا العهد إلى بائع متجوّل.

والمعروف تاريخياً أن حفلة التسلم والتسليم كانت تعقد في آذار(مارس) بحيث يتاح للرئيس المنتخب فرصة التعرف إلى المشكلات المعقدة، والتكيف مع الظروف القائمة. ثم أجري التعديل لتقصير المدة على اعتبار أن الرئيس يمكنه التدرب على الحكم داخل الحزب أو في الوظيفة. أما في حال ترامب، فإن انتخابه كان مفاجأة المفاجآت، تماماً مثل انتخاب رودريغو دوتيري في الفيليبين... أو تيريزا ماي في بريطانيا (حركة بريكزيت).

بقي أن نذكر أن نتانياهو أمر ببناء ستة آلاف وحدة استيطانية في عهد باراك أوباما، وهو يستعد لمواصلة البناء في عهد ترامب، خصوصاً بعد تعيين ديفيد فريدمان سفيراً في إسرائيل. وكان هذا التعيين بمثابة مكافأة خاصة ثمناً لخدماته كمستشار للشؤون الإسرائيلية أثناء الحملة الانتخابية. وهو حالياً مكلف بالإشراف على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، علماً أن الأمم المتحدة أبلغته بخطورة هذا التجاوز، وبأن عملية النقل تُعتبر مخالفة لسلسلة قرارات اتخذها مجلس الأمن بهذا الخصوص. ومع هذا كله، فقد باشر في استئجار منزل موقت، إلى حين تنفيذ قرار النقل.

ويتردد في القدس أن بنيامين نتانياهو نصحه بالتريث، لأن تحقيق هذه الرغبة يمثل مشروع انتفاضة ثالثة في الضفة وغزة، لا يبدو أن إسرائيل مستعدة لمواجهتها.