فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود

كتبتُ مستبشرًا في جريدة «الشرق الأوسط»، بداية عام 2016، مقالاً بدأته:
الحمد لله الذي منّ على هذه البلاد بمكانة جعلت منها قبلة للمسلمين، ونبع حضارات امتدت لآلاف السنين، وحاضرًا وحّده المؤسّس برسالة التوحيد، وملوكٍ سخّروا أنفسهم خدمة للدين والوطن والمواطنين، وها نحن نعيش امتداده في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، مكملاً مسيرة أجيال ليوصلنا إلى عصر جديد ومجيد بإذن المولى وتوفيقه. عصر حزم وعزم، يؤسّس لأجيال المستقبل، وبأجيال المستقبل يُبنى الأساس.


البدايات كانت في أقل من عام؛ بتحديد المسؤوليات وإعطاء الصلاحيات. وهي أساس البناء لتحمّل سرعة التغيير، ومواكبة التغيير السريع. وها نحن هذه الأيام نرى بوادر نتاج عمل يهدف إلى الاستدامة، ويقدم لقيمة مضافة، ليحقق على أرض الواقع مكوّن رؤى تؤكده توجهات القيادة بمنهجية هي الأمل الذي ننشده في بناء مجتمع يهدف إلى المعرفة، كجزء من «التحول الوطني» الطموح لتحقيق الأهداف بحلول 1441هـ. مجتمع متصل بالأصل ومواكب للعصر، لاقتصاد مبني على المعرفة، عماده مقاصد شريعتنا الغراء، مجتمع مبتكر مبدع ومنتج. لقد حلمنا، أبناء هذا الوطن، عملنا وشاركنا في ورش عمل وحلقات من العصف الذهني كان نتاجها، بحمد الله وتوفيقه، وبمشاركة أكثر من ثلاثمائة من أبناء وبنات الوطن، «استراتيجية المعرفة» التي تبنَّتها «مجموعة الأغر» في عام 1428هـ، وتشرفنا برفعها إلى ولي الأمر.
إن استراتيجية المعرفة أساسها الاستثمار في رأس المال البشري المبني على:
1- التعليم. 2- التدريب. 3- الاستثمار (رأس المال الجريء). 4- استقطاب العقول. 5- توطين التقنية والبحث والتطوير.
برؤية: أن نكون مجتمعًا معرفيًا منتجًا ومنافسًا عالميًا بحلول عام 1444هـ.
وبرسالة: بناء مجتمع معرفي متكامل عالميًا يحقق تنمية مستدامة من خلال بناء ثروة بشرية مبدعة وبيئة تقنية وبنية تحتية حديثة محفّزة لتحسين مستوى المعيشة والرقي بالمجتمع السعودي.
يرتكز مجتمعنا المعرفي على توجيه وتطوير الثروة الفكرية مستندًا إلى قيمه الإسلامية، ومسخرًا الإبداع الفكري لتحقيق تنمية مستدامة، ويكون الفرد محورًا للتطوير من خلال روابطه الأسرية والاجتماعية.
فعالمنا يشهد تطورات تقنية ومعرفية سريعة ومتلاحقة بدأت في تغيير خريطة النظام العالمي الجديد، إذ أصبحت القدرة على التنافس بين الدول تعتمد على مدى فعالية توظيفها لرأس المال البشري كعنصر إنتاجي رئيسي، وتحويله إلى عنصر مبدع يبتكر ويعزّز المزايا التنافسية له.
فالقاعدة الأساس والمحركات الأساسية تعتمد على العوامل المساعدة:
أ- البنية التحتية. ب- رأس المال الفكري. ج- التفاعل. د- مبادئ وقيم. هـ- المحفزات. و- المؤسسات.
وما يرسخها هو القدرة الإبداعية لتنتج الميزة التنافسية للإنتاجية العمالية أو الصناعية أو الخدمية أو الكلية، التي تحملنا على الرقي المادي والفكري لبناء الثروة وتحقيق التنمية تحت مظلة الإسلام بمقاصد شريعتنا السمحة:
(الدين): الشريعة ومكارم الأخلاق لدولة المؤسسات وتطبيق النظام.
(العقل): اقرأ، التعليم والتعلّم.
(المال): إعمار الأرض والبنى التحتية.
(النفس): الثروة الفكرية والثروة البشرية.
(النسل): المستقبل والاستثمار في الأجيال القادمة.
وها أنا أعود أكثر استبشارًا بعدما شرفني صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل ممثلاً لمجموعة «الأغر» بالتوقيع على أول اتفاقية عمل مشترك لبناء «أسرة معرفية سعودية» تُسهِم في تحقيق التنمية المستدامة، وذلك في إطار الرؤية التنموية لمنطقة مكة المكرمة في بناء الإنسان وتنمية المكان.
الرؤية التنموية لمواءمة «رؤية 2030»، التي تطرحها إمارة منطقة مكة المكرمة بناءً على استراتيجية منطقة مكة المكرمة، والتي تعتز «مجموعة الأغر» بالمساهمة في بنائها في عام 2008، هي ما يتطلع إليه كل مؤمن ومحب لهذا الوطن الغالي، ليرى مشاركة أبنائه في ربط تطلعات قيادتنا الحكيمة بدور الإنسان السعودي كمحور أساس في التنمية والبناء، والاستثمار الحقيقي في ثروته الدائمة.
«الأسرة المعرفية» هي إحدى مبادرات «مجموعة الأغر» خدمة لمستقبل الوطن وأجياله ونتاجًا لحاجة الوطن لنقلة نوعية للمواطن في عالم تسوده المعرفة، لتحقيق رؤية تحول المملكة العربية السعودية إلى مجتمع معرفي منتج ومنافس عالميًا، ليحقق تنمية مستدامة من خلال بناء ثروة بشرية مبدعة لتحسين مستوى المعيشة والرقي بالمجتمع السعودي. في عام 2012 انبثقت «مبادرة الأسرة المعرفية» من استراتيجية التحول إلى المجتمع المعرفي، لأن الأسرة هي عنصر أساسي لبناء مجتمع يستند إلى إيجاد البيئة التفاعلية المحفزة لتحقيق الاستفادة القصوى من رأس المال البشري وإبداعاته.
وتهدف إلى بناء «أسرة معرفية سعودية» لتُسهِم في تحقيق التنمية المستدامة وتتميز إقليميًا ودوليًا، ورفع مستوى المعرفة والمهارات التربوية للوالدين السعوديين، خصوصًا في السنوات الأولى من عمر الطفل، من خلال منظومة متكاملة من أدوات تغيير السلوك الاجتماعي المعدَّة تبعًا لأفضل الممارسات والتجارب الدولية، استنادًا إلى مخرجات بنية تحتية معرفية صلبة وبالتعاون مع شركاء التنمية.
انتهت المرحلة الأولى للمبادرة بدراسة هي الأولى من نوعها، وتركز على مدينة جدة. والآن تنتقل «مجموعة الأغر» مع شركائها الاستراتيجيين إلى مرحلة تحويل مخرجات الدراسة التي تقوم على التفاعل مع قضية الأسرة، ومدى أهميتها إلى أرض الواقع.
ولا بد من أن أذكر هنا أن هذه المبادرة شدتني كثيرًا عندما كنت مسؤولاً في التعليم، وكان إيماني دائمًا: إذا أردنا أن ننهي مشكلات التعليم، فيجب أن ننقل الوزارة إلى المدرسة، وهنا أرى دور المنزل والعائلة؛ فقد كان آخر حديث لي عنها في حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، عندما كرمني بوجود الإخوة والأخوات زملاء التعليم، واقترحت في كلمتي الوداعية تبني الوزارة لـ«جائزة الأسرة المعرفية»، متمنيًا توفيق المولى وتقديره لهذه المبادرة، وأي مبادرة تنبع من أبناء الوطن تلبية لحاجة الوطن، وأن تسهم في خدمة الوطن والمواطن لتحقيق الرخاء والأمن والسعادة، وتلبي توجهاتنا ورؤانا المستقبلية بتوجيهات قيادتنا الحكيمة.
وأنهي، كما أنهيت مقالي عام 2016، بـ«ما أجمل أن يحلم الإنسان»، ولكن أجمل من ذلك أن يفيق على حقيقة يراها تتبلور وتنعكس على عزيمة من آمنوا بربهم ثم بقيادتهم وبوطنهم ومواطنيهم، لتحقيق أمل أمة كرّمها المولى ووهبها عظيم المقومات، لتتبوأ المكانة التي هي أحقّ بها لتقودها إلى الفلاح.

 * وزير التعليم السعودي سابقًا.

رئيس «مجموعة الأغر للفكر الاستراتيجي»