حسين شبكشي

 كنت في صغري دائمًا ما أعجب بعبارة «جنة الله على الأرض»، التي كانت تصل إليّ في وصف بعض الدول التي يزورها الأشخاص في دائرتي المقربة من أصدقاء ومن معارف وأقرباء. وغالبًا ما كان الوصف محددًا في مناظر الطبيعة الخلابة في هذه البلدان التي تسحر وتسر الناظرين إليها.


ولكن جنة الله على الأرض مع العمر والتجربة والحكمة المكتسبة أصبحت تأخذ عندي معنى مغايرًا، أصبحت تعني دولة القانون واحترام الأنظمة والمواطنة الكاملة والحقوق المحفوظة والخدمات السوية للمواطنين والمقيمين فيها وتوازن الأمن مع الحريات.
هذه هي الصورة الحقيقية لجنة الله على الأرض بمفهوم اليوم، وعلى ما يبدو فإن الدول الإسكندنافية وجدت المعادلة الصحيحة والحقيقية لتكون جنة الله على الأرض. فهي دومًا تتصدر قوائم أقل الدول فسادًا وأكثر الشعوب سعادة وأفضل الأماكن للمعيشة وأحسن أنظمة التعليم وأكثر أنظمة العدالة والقضاء كفاءة، وتشعبت في تفوقها لتتربع على أفضل الأماكن من ناحية تطبيق حقوق الإنسان وحقوق الحيوان وإعادة تدوير النفايات وحماية البيئة وضمان حقوق اللاجئين والمهاجرين بشكل غير مسبوق ولا مألوف في غيرها من الدول حول العالم.
لقد قدمت هذه الدول للعالم نماذج ناجحة، وخصوصًا في عوالم الفنون والموسيقى والأدب والأعمال، فمنها خرجت المجموعة الغنائية «آبا» وشركات «نوكيا» و«إريكسون» و«فولفو» و«آيكيا» وغيرها من نماذج التألق والنجاح المبهر.
الدول الإسكندنافية بسبب تحقيقها التوازن الدقيق بين الرأسمالية والاشتراكية في عدالة وميزان حساس، تمكنت من تطبيق أنظمة محاسبة ومكاشفة وحوكمة سبقت بها غيرها منذ زمان، بل هي مضرب الأمثال في ضمن المعسكر الغربي نفسه. لديها القدرة العالية والمهمة على مراقبة ومراجعة الأداء والنقد الذاتي العظيم لمراقبة ما وعدت به وما أنجزته. حتى في ضمن الدائرة الاقتصادية التقليدية والعادية، فهي في حال مستمر من إعادة اختراع النفس.. شركات كانت متخصصة في مجال ثم تنطلق في مجال آخر تمامًا كانت متطلبات السوق تستدعي ذلك.
الدول الإسكندنافية اليوم تعيد «تدوير» أنظمة التعليم في العالم، والكل يراقب باهتمام وشغف وفضول غير عادي التجربة الفنلندية في التعليم والتعلم وكيف تحولت فكرة المدرس والمدرسة إلى واقع مختلف اليوم، وكيف أن الطالب بإمكانه أن يختار ويقرر من سنوات العمر الأولى، وهذا النظام الذي نجح في فنلندا بشكل عظيم سيبدأ تطبيقه في دول أخرى حول العالم اهتمت بتبنيه، وهذا سيكون له أثر تربوي غير عادي على قطاعات التعليم ونتائجه حول العالم بالتدريج. هذه الدول بلغت حدًا أن معدلات الجريمة انخفضت إلى مستوى غير مسبوق باتت معه تغلق السجون، وأيضًا حجم النفايات بها انخفض بدرجات عظيمة من كفاءة إعادة التدوير وإعادة التصنيع، حتى إنهم باتوا يستوردون النفايات من دول أخرى لاستمرار تدوير المصانع المخصصة لها.
جنة الله على الأرض لها معايير، منها إقامة العدل وترسية العيش بكرامة وتحقيق الحرية المسؤولة والمكانة المحترمة والعلاقة المقدرة بين الدولة والشعب في ظل إطار من الحريات المحترمة. متى تحققت هذه المعادلات المهمة كانت جنة الله على الأرض التي أساسها الإعمار، وهي المسألة التي عرفتها الدول الإسكندنافية وأبدعت في تحقيقها.. .