غسان حجار

يحكى الكثير عن المارونية السياسية، كما صار يحكى عن السنية السياسية والشيعية السياسية، وهي عبارات لا تعكس الواقع، اذ ان المستفيدين من التجمعات المقصودة بالتسمية، قلّة لا تعبّر عن مجمل ابناء تلك الطوائف. واذا كانت اكثرية ابناء طائفة بعينها ارتضت نمطاً او نهجاً او سياسة محددة، فانها تظل عاجزة عن التعبير الشامل، اذ ثمة اختلاف بين ابناء المذاهب في انتماءاتهم وميولهم السياسية، كما في فهمهم لتلك المصطلحات ما بين مجموعة مستفيدة، او مجموعة ثقافية، او دينية، او سياسية.

لكن المارونية السياسية تبقى مدانة ومنتقَدة بسبب ارتكابات مارسها ساسة الموارنة الذين امسكوا بالقرار في عهود مختلفة، لم تساهم في المحافظة على الكيان، وتطوير الصيغة، وصون الميثاق، الذي كان الاساس في قيام لبنان. ساهم الموارنة في ولادة لبنان، وتجمعت من حولهم الظروف المعقدة، فلم تدعم انطلاقته، واضيفت اليها ممارسات ميليشيوية سبقت الميليشيات، لبعض القيادات، جعلت الوطن ضحيتهم، بعدما شكلوا حاضنته.

تعاملت المارونية السياسية بفوقية مع لبنانيين، مسيحيين قبل المسلمين، فنمت عقدة الارثوذكس السياسية، واضمحل دور الكاثوليك في قلب الصراعات والحروب المارونية، اما الباقون فاعتُبروا اقليات تستعمل عند الحاجة، بل ترهن حاجاتهم بولائهم. ولم يسع القادة الموارنة الى احتضان الشيعة الذين كانوا اولاد الارياف، فنما لديهم الشعور بالحرمان والاستضعاف، حتى تحولوا الى الانقلاب على مفهوم الدولة، قبل ان يحاولوا الامساك بها، لازالة ترسبات المارونية السياسية. وحين ضعفت الاخيرة وتراجع دورها، حاولت السنية السياسية الناشئة، ان تكون الوريث الشرعي، اذ كانت الشريك الاساس في البدايات، لكنها ايضا لم تثبت اقدامها، الى ان جاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري دافعا بها الى انتكاسة.

لكن الحقيقة ايضاً، واليوم في عيد مار مارون، ان المارونية السياسية، رغم اخطائها التي لم تكن مبررة، اعطت لبنان كثيراً، وما تحقق في زمنها لم يتقدم قيد انملة، بل تراجع دور المؤسسات، وانهار بعضها، وما يحكى عن انجازات حققها الآخرون، لم يبلغ مستوى ما تحقق قبل نصف قرن. لبنان الكبير ساهم في ولادته البطريرك الياس الحويك، ولبنان المحرر من الوصاية السورية حققه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، ولبنان اللبناني حفظته البطريركية المارونية. وفي زمن المارونية السياسية تأسس مجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي، وتقوّى القضاء، وكبرت المؤسسات الامنية ونمت.

لكن الحرب، وتداعياتها، وتراجع دور المارونية السياسية، وتداعياته ايضا، أديا الى تراجع كبير في كل المؤسسات، وفي كل الادوار، فلم يعد لبنان جامعة الشرق، ولا مستشفاه، وتضاءلت الثقة بالقضاء، وبالتفتيش المالي والاداري، وتراجعت خدمات الماء والكهرباء والطرق، ولم يعد لبنان قبلة السياح، والمهرجانات المسماة دولية هبط مستواها، وصارت محلية بشعارات عالمية، وتدهورت اوضاع البيئة، وغيرها، ما جعلنا في حنين الى زمن المارونية السياسية.