إميل أمين

أفرزت حادثة اعتداء الشاب المصري خلال الأيام القليلة الماضية على بعض الجنود الفرنسيين أمام متحف اللوفر الفرنسي الأشهر في قلب العاصمة الفرنسية باريس، تأكيداً لحقيقة مؤلمة ومستجدة في سياق عالم التطرف والتعصب، ونعني بها ظاهرة «الذئاب المنفردة»، فلم يعد الإرهاب قاصراً على الجماعات المركزية العنقودية، ذات الترتيب الهيراركي والتي تعتمد التراتبية التنظيمية، حيث الأوامر تصدر من أعلى وتصل لاحقا إلى أدنى السلم الوظيفي أو التشغيلي بالمعنى العملياتي، بل أضحت عملية «تطوع ذاتي»، ودون الحاجة إلى أداء قسم، كما كانت الحال في عهد الجماعات السرية المتباينة التي عرفتها البشرية في العهود الماضية.

يعن لنا أن نتساءل ما الذي يدفع شاب في مقتبل العمر لأن يعبر الحدود من الشرق إلى الغرب ليقوم بفعله كهذه، لا تضيف شيئا للإسلام ولا للمسلمين، بل على الضد من هذا كله إنها تختصم منهم الشيء الكثير، وترجح من أسف دعاوى العنصرية وتزيد من مساحة الاسلاموفوبيا، وتزخم الساحة الأوروبية المليئة باليمين المتطرف، الماضي قدما في إعادة العالم إلى التقسيم المانوي البغيض بين الذين معنا، والذين علينا.

الذين أطلعوا على بعض عبارات صاحب حادثة اللوفر وقر لديهم أنه تم تجنيده أيديولوجيا عن بعد، وهذه هي في واقع الحال الكارثة وليست الحادثة، لاسيما في زمن تلعب فيه وسائط الاتصال، والتكنولوجيا الحديثة دوراً خطيراً في تسهيل تطويع الأشخاص عن بعد، ومن ثم تدبير وترتيب المخططات الآثمة وإخراجها إلى حيز الواقع.

يقر مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) السابق «جون برينان» بأن الانفجار التقني والمعلوماتي والآليات التكنولوجية الحديثة، جعلت من الصعب محاربة المتشددين الذين يستخدمون هذه التقنيات لتبادل المعلومات وتنفيذ العمليات الإرهابية، وكان «برينان» يتحدث أمام أحد أهم المراكز البحثية الأميركية «مجلس العلاقات الخارجية» في نيويورك. 

إشكالية الذئاب المنفردة هي مقدرتها على تجاوز الأفكار الكلاسيكية الهدامة واكتشاف طرق ومسارب جديدة للشر، ففي الحادي عشر من سبتمبر 2001 لم يكن يخطر ببال أحد أن يستغل مجموعة من الشباب طائرات الركاب ليحولوها إلى صواريخ قادرة على إسقاط برجي التجارة في نيويورك. 

ولاحقاً في باريس رجحت سلطات الأمن الفرنسية أن العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد في نوفمبر من عام 2015 قد تم التنسيق والترتيب لها من خلال جهاز «بلاي ستيشن 4»، ما وفر للمنفذين من الإرهابيين طرقا للتواصل بسرية تامة، وتبادل رسائل، ومحادثات صوتية بعيداً عن أعين الأمن الفرنسي. 

يستلفت النظر في كارثية ظاهرة «الذئاب المنفردة» الصعوبة الكبيرة جداً غالباً، والتي تصل حد الاستحالة في أحيان كثر في تتبع ومراقبة السائرين في دربها، ومن ثم التعاطي معهم بقوة القانون وبمواده وبنوده، وبخاصة أنه لا توجد مواد قانونية ما تدين النوايا غير المعروفة، أو تستطيع تشخيصها والحد منها ومن آثارها القتالية تالياً.

هنا... هل يقف العالم مكتوف الأيدي؟ ليكن الجواب في الإطار العربي والإسلامي أولاً، ولاحقاً دعونا نتطلع إلى العالم، ذلك أن المشهد على هذا النحو يحتاج حالة تنادي عالمي تتجاوز الإقليمية أو المحلية.

تفرض اللحظة الراهنة مراجعات فكرية واجتماعية، ثقافية وإنسانية، وكلها في إطار من رؤية ناجعة لتجديد الخطاب الديني. يمكننا أن نساءل «شاب حادثة اللوفر»... هل أضاف رصيداً إيجابياً للحضارة العربية والإسلامية بفعلته هذه؟ ثم ما الذي يعرفه ويدركه عن تلك الأيام الزاهية الناصعة في تاريخ الأمة؟

أغلب الظن أننا أمام «ضحية» أكثر منه «جاني» إذ لم يجد من ينشر له الضوء على المعاني والمباني الإسلامية الحقيقية، كما وردت في الذكر الحكيم «لكم دينكم ولي دين»، (الكافرون/‏6)، ولم يجد من يأخذ بيده وعقله إلى حكمة القرآن في التنوع البشري بعيدا عن أوهام السيادة العنصرية «وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» (الحجرات/‏13)، بل أنه لم يتوقف شخصيا أمام المعيار الوحيد الذي جاء به الإسلام للتفاضل في العمل والرحمة «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات/‏13).

تحتاج ظاهرة «الذئاب المنفردة» في العالمين العربي والإسلامي معركة ومواجهة فكرية، قبل أن تكون أمنية، معركة تتضافر فيها جهود مؤسسات الدولة، أي دولة وكل دولة، التعليمية والإعلامية، الدينية والثقافية، للعمل على مقاومة التعصب العرقي وإعلاء قيمة التسامح وقبول الآخر والمساواة، والانفتاح الإيجابي الخلاق وجميعها كانت مبادئ حاسمة وحاكمة في مسيرة التطور الحضاري العربي والإسلامي على مدى أربعة عشر قرناً.

يقارن الأوروبيون اليوم لاسيما المفكرون والمثقفون منهم بين تاريخ أوروبا - الأندلس حيث أكبر نهضة فكرية وفلسفية وعلمية جعلت من مدن طليطلة وقرطبة وغرناطة منارات العالم المتحضر قبيل عصر النهضة الأوروبية، حيث أنجبت تلك الحقبة، ابن ميمون، وابن رشد، وابن عربي، ومتصوفة المسيحية مثل يوحنا الصليبي، ونقلت العلوم والمعارف العربية إلي اللاتينية ولغاتها العامية الوليدة مثل الفرنسية والإيطالية، وبين مشهد شاب يحمل سلاحاً أبيض صائحاً «الله أكبر» على عتبات اللوفر، حيث شهود التاريخ ناظرين إليه بمزيد من الأسى والحسرة على حال العرب والمسلمين الذي كان وما آل إليه.

ترك الأجيال القادمة فريسة للتجنيد عبر الأثير وإتاحة الفرصة لـ «التطوع الذاتي» في طرق الشر أفرز داعش وأتباعها، فهل سنقف مكتوفي الأيدي أم لأبد من تحرك سريع فاعل ناجز على الأرض قبل أن يتحول العالم إلى ضحايا فوق صفيح ساخن كل يوم؟

*كاتب مصري