عبد المنعم سعيد

لمن لا يعرف فإن مهرجان «الجنادرية» الذي يقيمه الحرس الوطني السعودي ينقسم من حيث الأنشطة إلى مجالين: التراث والثقافة، ويمثل تعبيرا عن تقاليد الدول المشاركة؛ والندوات أو «الفعاليات الثقافية»، وهذه تأخذ شكل التجمعات المعتادة للمثقفين والدارسين وصناع الرأي. هذه بطبيعتها ليست مجرد جلسات، تعرض فيها الأوراق وتناقش، ولكنها حوارات ممتدة داخل قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بالفندق، أو بين الجلسات، وموائد الطعام، ولقاءات الليل التي تمتد إلى قرب طلوع الفجر. الغائب الحاضر، كان دوما دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الجديد، الذي لم يمض على توليه الحكم أكثر من أسبوعين.


أن يهتم الجمع في «الجنادرية» بالرئيس الأميركي المنتخب ليس أمرا جديدا، بل إن عدم الاهتمام به إذا حدث هو الذي يلفت النظر. وفي كل الأحوال فإن جدول الأعمال شمل جلسة كاملة عن «السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط»، ولكن الجلسة لم تكن كل الحديث، ولا كانت هي وحدها مجال الحوار. فهذه المرة كان الأمر بالتأكيد مختلفا عما كان سائدا من قبل من وجود توافق عام في بداية كل حديث عن رئيس أميركي جديد على أن الولايات المتحدة هي في الأول والآخر بلد لمؤسسات فاعلة، وتقاليد سياسية ودبلوماسية مستقرة، فضلا عن محددات جيوسياسية واستراتيجية لا يمكن تجاوزها بسهولة. الرئيس هذه المرة، دونالد ترمب، لم يكن خاضعا لهذا التوافق، وبشكل ما فإنه يشهر بقوة ما يسميه المؤرخون «دور الفرد في التاريخ» الذي يعد استثناء على أن الظروف الموضوعية هي صاحبة التأثير الأكبر في حركة الأحداث والتفاعلات في الدول وفيما بينها. الفرد في التاريخ يحاول أن يكون متحديا لما هو سائد ومعتاد ومستقر عليه؛ ولم تكن هناك صراحة أكبر من تلك التي قال بها ترمب إنه سوف يقوم بإزعاج النظام القائم، ولعل كلمة «Disruptive» التي استخدمها كثيرا أكبر من كلمة الإزعاج في اللغة العربية، هي باختصار تبعثر ما هو قائم وتدفعه دفعا في اتجاهات مختلفة.
دور الفرد في التاريخ يصبح متزايدا عندما تكون له «رؤية» مختلفة، ولديه من التصميم ما يكفي لوضع هذه الرؤية موضع التطبيق. وترمب لديه مثل هذه النظرة في ثلاثة اتجاهات: أولها في اتجاه الولايات المتحدة التي يراها في مؤسساتها الراهنة فاقدة للعظمة التي هي قدرها، ولذا فإن أميركا لن تكون عظيمة مرة أخرى ما لم تتخط تقاليد ليبرالية جعلتها ضعيفة ومخترقة الحدود، ويرى خداعها كل يوم في المنافسة الدولية. الأعداء يتربصون بها، أما الأصدقاء والحلفاء فإنهم يستغلونها، ويركبون على قدراتها للحصول على خدمات مجانية. وثانيها في اتجاه النظام الدولي الذي لا يوجد فيه ما يحسب حسابه موضوعيا من حيث القدرة إلا روسيا التي لديها ما يوازن ويردع الولايات المتحدة، أما البقية الباقية من الدول فإنهم محض تفاصيل. العالم لدى ترمب ليس متعدد الأقطاب، وإنما فيه قطبان إذا ما جرى التوافق بينهما، فإن قضايا العالم المختلفة يمكن التعامل معها. النتيجة الطبيعية لذلك هي أن توافقا أميركيا روسيا أو «Condominium» يمكنه أن يحد من الطموحات الروسية من ناحية، ويجعل أميركا في غير حاجة إلى حلفائها من ناحية أخري. وثالثها أن الليبرالية الأميركية في صياغتها الجمهورية أو الديمقراطية فإنها تعبر عن «مؤسسة» عرضت أميركا والأميركيين لأخطار بالغة نتيجة ما بات معروفا بـ«العولمة»، ولا يمكن التخلص منها إلا بسياسات مضادة تقوم على العزلة والإجراءات الحمائية، وفك أسر الولايات المتحدة من المنظمات الجماعية الدولية مثل الأمم المتحدة وغيرها.
الفرد في التاريخ في العادة له «كاريزما» شخصية، وهذه متوافرة لدى ترمب بغزارة، ولكن أهم ما لديه فهو الأفكار الزاعقة التي من الجائز أن تخطر ببال آخرين، لكنهم لا يتحدثون عنها خوفا من الإحراج. هناك في التاريخ من لم تؤخذ أفكارهم بالجدية التي ربما يستحقونها، وهناك ملايين ينتصرون لهذه الأفكار. شيء من هذا جرى لترمب، فقد ذكر أفكارا كثيرة لم يتخيلها أحد في الولايات المتحدة مثل القول بطرد المهاجرين غير الشرعيين، وبناء السور على الحدود مع المكسيك، وحتى الهجوم على حلف الأطلنطي، والممارسات الصينية التجارية، والمنافسات غير الأمينة لليابانيين والأوروبيين مع الولايات المتحدة.
الفرد في التاريخ لا بد أن يكون آيديولوجيا من الطراز الأول، لديه فلسفة كاملة للوجود والعلاقات الموجودة فيه، والأهم لها قدرة زاعقة على جذب الأنصار، ودفعهم دفعا في اتجاه مهمة مقدسة. وفي أثناء الندوة الخاصة بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط وردت وجهة نظر أن ترمب هو «في النهاية» «واقعي»، أو حسب المصطلح الشائع من أنصار «السياسات الواقعية» أو «Real Politics»، وهي مدرسة في التفكير الاستراتيجي تقوم على توازن القوى وإدراكه من قبل قوى متنافسة ومتصارعة. هذه المدرسة كان لها أنصارها في الولايات المتحدة، وتميز فيها قادة مثل إيزنهاور ونيكسون وريغان وبوش الأب وكلينتون، ورغم أن الليبرالية كانت لها مسحة على رؤساء أميركيين آخرين مثل كينيدي وكارتر وأوباما فإنهم جميعا تأثروا بهذه المدرسة. ترمب يختلف فكريا عن كل هؤلاء، لأنه يأتي من مدرسة «القوميين البيض» التي لها سمات شائعة بين تيارات أميركية متطرفة وجد الرئيس الجديد صعوبة في استنكارها والتملص منها، بل إن واحدا من كبار مستشاريه «بانون» ينتمي لها مباشرة. هو بالتأكيد يختلف مع مدرسة المحافظين التقليديين في الحزب الجمهوري، لأن لها أبعادا «دولية» أو «عالمية»، كما أنه يختلف مع «المحافظين الجدد» الذين صاحبوا جورج بوش الابن، لأنهم فضلا عن نزعتهم العالمية فإن المصالح المباشرة للولايات المتحدة ومواطنيها كانت غائبة عنهم لصالح قوى عالمية أخرى. «العولمة» لدى ترمب مرض لا يمكن التخلص منه إلا بالاستغراق في «الأمركة».
الفرد في التاريخ يظل في كل الأحوال تحت الاختبار خصوصا لو كان رئيسا جديدا، فهناك الظروف وتوازنات القوى، والواقع السياسي الذي يفرض عليه نتائج لا يتوقعها. هل يتغير ترمب وهو في السلطة ويظل أمرا مفتوحا لتوقعات مختلفة، ولكن حتى كتابة هذه السطور فإن ترمب أثبت أن ما قاله كان هو ما طبقه، وفي الأيام الأولى من رئاسته دخل في صدام مع السلطة القضائية، واحتكاكات مع السلطة التشريعية، ومواجهات مع الإعلام والشعب الأميركي المتظاهر. ماذا سوف يفعل ترمب مع كل ذلك مسألة لم تجد إجابة في حوارات «الجنادرية»؟!.