أمين طلال

الإشكالية اليوم ليست مع الجهل غير الضار أو الجهل البسيط، فهذا الجهل ضمن طبيعة الإنسان التي لا يمكنه الانفصال عنها

ما الجهل؟ هل الجهل هو عدم معرفة بالشيء، أم امتلاك معرفة خاطئة عن الشيء؟ فمن هو الجاهل إذاً؟ هل هو هذا الذي لا يعرف من الأساس، أم هو من يمتلك معرفة لكنها خاطئة؟ في الحقيقة إن مفهوم الجهل يعبر عن عدم معرفة بالشيء ويعبر أيضا عن امتلاك المعرفة الخاطئة عن الشيء، وأن الجاهل هو من لا يعرف من الأساس، وهو أيضا من يمتلك المعرفة الخاطئة، من هنا يمكن القول إن للجهل مستويات، مستوى غير ضار لكن التخلص منه جيد ومفيد إن لزم الأمر، ومستوى ضار لا بد من التخلص منه، مثلا: لا يضرني أبدا ألا أعرف شيئا عن الميكانيكا، لكن من الجيد والمفيد أن أقرأ عنها بشكل ما إن احتجت، لكن من الضار جدا أن أعرف أشياء خاطئة عن الميكانيكا أو أن أتوهم معرفتي بها، مما قد يسبب تعطيل وتخريب بعض الأجهزة والمكائن، وهكذا.
الإشكالية اليوم ليست مع الجهل غير الضار، أو الجهل البسيط، فهذا الجهل ضمن طبيعة الإنسان التي لا يمكنه الانفصال عنها، كونها دلالة على محدودية قدراته الاستيعابية، وبهذا المعنى فكلنا هذا الإنسان الجاهل، الطبيب الخبير في مجاله جاهل بالقانون، والمحامي الضليع بالقانون جاهل بالطب، وإن جهل الطبيب بتخصص المحامي والعكس يعتبر محفزا لنشوء علاقة تكاملية بينهما، الإشكالية أبدا ليست في هذا الجهل، إنما في الجهل الضار أو المُركب، كونه جهلاً يُولد في الجاهل وهماً بالمعرفة، أن يمتلك أحدهم معرفة خاطئة فهو لن يعلم أنها خاطئة، إنما سيتعامل معها على أنها صحيحة تماما ثم سيباشر نشرها على هذا الأساس.
وللأسف فإن هذا النوع من الجهل في العالم العربي يتم برعاية حكومية مؤسساتية، أنظمة تعليمية يتم بناؤها لا لتعليم الإنسان أو لوضعه على طريق المعرفة، إنما لكي تعم حالة من السكينة والطمأنينة في المجتمع بكل أنظمته السياسية والدينية والثقافية، من هنا جاءت الحاجة إلى أنظمة تعليمية تُعلم الطالب ألا يقرأ إلا ما هو مقرر عليه، ألا يبحث خارج المألوف، أن يتوهم المعرفة وينال الشهادة ثم يتحصل مقابلها على وظيفة محترمة، ولا شيء أبعد من هذا، لا مزيد من طرح الأسئلة بعد الشهادة، لا بحث وتقصيا وسعيا للمعرفة، فالمعرفة ليست إلا محاولات دؤوبة لكشف المستور، ونحن نكره كشف المستور، ونكره من يسعى لكشف المستور.
وهذا لا يعني أبدا أن الجميع في العالم العربي جاهل جهلاً مركبا، متوهما امتلاكا لمعرفة أو يمتلك معرفة خاطئة، فهناك كثير من الباحثين والمفكرين المخلصين المطاردين غالبا أو المهمشين، إنما يعني أن المعرفة التي تباركها الحكومات والمجتمعات، على حد سواء، هي المعرفة المسموح بها، المعرفة المقيدة بالضوابط والأنظمة، والتي تمتاز بكونها لا تسبب حالة من القلق في المجتمع، ولا تسبب الصداع للأنظمة السياسية والدينية، كما تتميز بسهولة الحصول عليها، فهي محشورة في المواد المقررة وتنتهي بالشهادة، هذا هو الجهل المبارك سياسيا ودينيا واجتماعيا.
إن المعرفة في الغالب تتصف بأنها تسبب في العارف والباحث حالة من القلق وعدم السكينة، وبدعوى أن الدين جاء لكي يطمئن الإنسان ويهدئ لتتم محاربة المعرفة غير المنضبطة، ولضبط المعرفة وتقييدها يتم بناء أنظمة تعليمية يتخرج منها الطالب متوهما الوصول لنهاية الطريق، صحيح أنه لا يتخرج منها كسجين لكنه في نفس الوقت ليس سيد نفسه، إنما هو في المنتصف، يفعل ما يشاء ويلبس ما يريد ويأكل ما يشتهي، مسموح له أن يتحدث بنبرة الصوت والموضوع الذي يختاره، مسموح له أن يفعل كل ما لا يفيد ولا يضر في شيء، لكن لا يسمح له بأن يفكر ويعتقد كيفما يشاء، يتخرج وينطلق في الحياة دون أن يعترضه أحد شريطة ألا يناطح سقف الآراء السائدة والمعتقدات الراسخة، وشريطة ألا يخالف الثوابت ويتجاوز الخطوط.
إن الفرد هنا يدخل إلى مكتبة فيها آلاف الكتب، فيتجه إلى الكتاب الوحيد الذي لا يريد أن يقرأه، صحيح أنه يختار هذا الكتاب بكامل إرادته إلا أنه اختاره طلبا للسلامة وراحة البال وتجنبا لغضب الأصدقاء والأهل أو المؤسسة الدينية والسياسية، ثم يشتري هذا الكتاب الذي لا يريد أن يقرأه لا نفاقا منه إنما لأنه يخاف أن يريد ما لا يريده الآخرون! أو قد يحمّل من الإنترنت ما يشاء من الكتب غير المسموح بها، فيتحصل من خلالها على معرفة منفلتة من كل الضوابط، لكن عليه ألا يسوق لها أو يناقش ما بها علنا، عليه إن أراد أن يخلع عنه رداء الجهل المبارك أن يتعامل مع المعرفة أنها عادته السرية، يمارسها في الخفاء ثم يستغفر الله.