سمیر عطا االله

لم يحسم الجدل بين المفكرين حول من هو رائد الحداثة في علم السياسة: البريطاني توماس هوبز، أم الإيطالي ميكيافيللي؟ وتتداول العامة اسم ميكيافيللي في كل أحاديثها كمضرب للأمثال، وأحياًنا على سبيل النكتة، لأنه قال بالمخادعة في سبيل السلطة. وبقي هوبز وسواه من كبار المفكرين، ضمن نقاشات ونظريات النخبة، فالإيطالي بَّسط الأشياء واختصرها وقّربها من مفهوم الناس. لكن بسبب افتقاره إلى «الهيبة» العلمية، أسيء فهمه، وأسيء استخدام نظرياته، وأسيء النظر إلى خلقه.

وبنى المحدثون - عن حق - على التصورات المستقبلية، بينما اتخذ ميكيافيللي روما القديمة مثالاً له؛ وعن حق أيًضا. فالمواطن الروماني كان في صورة عامة كائًنا سعيًدا، يحترم مفهوم الدولة وصيغة القوانين. وكان المواطن داخل أسوار روما، أو في أرجاء الإمبراطورية، يخضع للقوانين نفسها، ويسمى «ابن روما»، لكن لا يحق للثاني حمل جواز السفر نفسه، وهو ما اعتمدته الإمبراطورية البريطانية فيما بعد إلى سنوات قليلة خلت.

وكان ميكيافيللي يكرر أن إيطاليا مأخوذة في نسخ التماثيل، في حين أن المطلوب هو نسخ الشخصيات الكبرى والأعمال العظيمة. حالت الصورة الكاريكاتورية للمفكر الإيطالي دون التعمق في اتجاهاته الإنسانية.

وبدا كأن كل ما يريد هو كيفية حماية النظام، لكن الواقع أن هّمه الموازي كان حماية المواطن. من أين أتى العنف إلى النظام السياسي الحديث؛ الفاشية والنازية والستالينية؟ ليس من العلم السياسي الحديث. صحيح أن بعضه دعا إلى شيء من الحزم، أو الشدة، في إقامة الدول، لكن الإبادات والحروب والتعذيب والمنافي ليست نتاج «الفكر»؛ بل نتاج العقول الصخرية. أهمل ميكيافيللي على نحو لافت جًدا، العودة إلى الأدباء والشعراء والروائيين، الذين يشكلون العنصر الأول في أي بحث سياسي أو اجتماعي، ولكن أنداده من البريطانيين والفرنسيين والألمان ربطوا كل شيء بتأثير النفوذ الأدبي على المجتمعات.

وليست لدّي، أو لدى غيري، أي إحصاءات، لكن الأثر الذي تركته قصيدة نزار قباني «هوامش على دفتر النكسة» كان في حجم ألف حزب وألف مهرجان. وشعرنا يومها كأن نصف الأمة، على الأقل، انتقل من مكانه ليسير خلف نزار وجرحه الأزلي.

ومر بنا مفكرون سياسيون كثيرون من مستويات عالية، لكن المؤسف أنهم لم يعطوا الوسيلة للوصول إلى قلوب الجماعات وعقولها بأسلوب مبسط أو محبب؛ بل العكس، اعتبروا جميًعا أن شروط السمعة الفكرية هي التعقيد، وأن يبدأ كل سطر بـ«إن» التوكيد. ورحم الله الدكتور علي الوردي، فقد كان واضًحا وسهلاً، لكنه غاب وفي نفسه شيء من «إن».